16-مارس-2019

أحد ضحايا المجزرة التي ارتكبها سفاح نيوزيلندا (أ.ب)

وقع في نيوزلندا يوم الجمعة 15 أذار/مارس حادث أليم راح ضحيته قتلًا قرابة الخمسين ومثلهم من المصابين، برصاص أربع أسلحة آلية، على يد شاب أسترالي يبلغ من العمر 28 عامًا، يقول عن نفسه إنه "أوروبي الثقافة والهوية والانتماء".

يختزل مصطلح "الإرهاب" واقع صراع أعمق له أبعاد تتجاوز في جذورها النزاعات السياسية والدينية إلى خطاب مهيمن منذ أكثر من نصف قرن

ما استرعى الانتباه في الحادث، فضلًا عن وحشيته، وحالة اللامبالاة الأقرب إلى يقين غامض من قبل السفاح وهو ينفذ الجريمة؛ هي التعليقات التي استتبعته. إذ لم تخلوا كثير منها من غضبة مقابلة للغضبة التي دفعت الشاب الأبيض إلى ارتكاب مجزرة بحق عزل أثناء أدائهم لطقوسهم الدينية في سلام. يبدو أنها لم تكن غضبة تحريضية، وليدة مقابلة لما يسمى بالإرهاب الإسلامي، وإنما هي نتاج تكوين طويل المدى، واستقاء من كل ما حوله.

اقرأ/ي أيضًا: "مانفستو الإرهابيّ".. ماذا كتب سفاح نيوزلندا قبل جريمته؟

هنا لا يبدو أن  ثمة فارق، إلا الفارق الأيديولوجي غير ذي المعنى الضروري، بين مقاتلي داعش وبين أمثال سفاح نيوزيلندا، فالمنطلقات واحدة وإن اختلفت الأسماء والتوجهات. المنطلق الأساسي،الذي ربما ينبغي إعادة الاعتبار له، هو الغضب، وعدم التساهل، وإن بدا غير ذلك، في التعامل مع هذه الظاهرة الجذرية، وإطلاق مسمى ضبابي عليها لوصفها: الإرهاب، على الرغم من أن أصل العماء والبلاء هو اختلاط الأسماء وما يتولد عنه من خلط مفاهيمي.

يختزل مصطلح "الإرهاب"، بما حُمّل به حديثًا، سياسيًا وأيديولوجيًا؛ واقع صراع أعمق له أبعاد تتجاوز في جذورها النزاعات السياسية والتفسيرات الدينية، إلى خطاب مهيمن يحكم العالم منذ أكثر من نصف قرن، ويعيد إنتاج نفسه ذاتيًا، وعبر امتصاص تناقضاته والنتوءات الخارجة عنه، بمسميات مثل "الإرهاب" أحيانًا حين يستلزم الأمر، أو "التنمية" أحيانًا أخرى كمقابل لمواجهة الصراع حوله، وأخيرًا اليمين واليسار والتطرف والاعتدال. فيما تستقر الكتلة الصلبة لأصل المشكلة قائمة، متعددة الأوجه، ومتشعبة ومتراكمة في فهم الإنسان نفسه، بل وفي الإجابة عن الأسئلة، التي قد تبدو شديدة الأولية.

حتى أن الجدل، المستبطن من آليات النظام المهيمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، بات يركز في أخذ الحق بانتزاع توصيف "الإرهاب" من الآخر على ما فعله أبيض أو ذو بشرة سمراء، ينتمي إليه موطنيًا أو "ثقافيًا". وانفك الجميع عن طرح تساؤلات أكثر جذرية، ليس حول العنف المفرط من داعش مثلًا، وإنما حول دوافع توجه مئات من الشباب الأوروبي حتى النخاع، للقتال مع داعش. تساؤلات مثل: ما الذي جعل البريطانية سالي جونز تتحول من مغنية إلى متوعدة بقطع رقاب الكفار؟!

يجمع الغضب  ما تبدو أنها متضادات. الغضب يصهر هؤلاء في بوتقة واحدة، متعددة الاتجاهات/التوجهات. حينما حاول بيرنتون تارانت، سفاح نيوزيلندا، الفرار من عملية الانصهار في بوتقة "التعددية"، كما قال في بيانه السابق على الحادث، لم ينتبه إلى أنه انصهر في بوتقة أكثر خطورة، وهي الغضب، وأنه في حقيقة الأمر ليس إلا ردة فعل على مزاعم "التعددية"، والتي هي مصطلح آخر مشوّه، لكنه أخف وطأة من أن يقال صراحةً: الاحتلال العسكري أو الاستعمار أو الهيمنة والتبعية بالنفوذ ورأس المال.

المشكلة لدى تارانت أن هذا الخطاب جزء من ضحاياه هم الذين وجه غضبه تجاههم. وهكذا يستغل خطاب اختلاط الأسماء هذا حالة الغضب من داخله، بإعادة توجيهها نحو ضحاياه الآخرين. وهناك مسميات تسع الجميع: "متطرف يميني" أو "إرهابي مسلم" أو العكس، لا مشاح هنا في الاصطلاح الذي لا يعني حتى معناه لغويًا أو تاريخيًا.

كرس الخطاب المهيمن لهذا التخبط الاصطلاحي كجزء من آليات تكريس السلطة وإعادة إنتاجها رفقة آلياتها التراكمية، عبر خلق حالة من الشتات والفوضى بين ضحاياه، ليعيد إنتاجهم في كل مرة ضحايا له أو ضحايا لضحاياه. هكذا نشأت مصفوفة الضحايا، التي لم تنتهي في أي مرة عند أسبابها، أو بالأحرى مسببيها الأصليين.

بتقصي الواقع، يمكن القول أن الإرهاب ليس إسلاميًا ولا مسيحيًا. الإرهاب نظامي؛ الإرهاب في تفريخ الإرهاب لاستخدامه ضد ضحايا آباء الإرهاب المؤسسين له بالتهميش اقتصاديًا وما ينبني عليه اجتماعيًا وثقافيًا.

والإرهاب النظامي في صوره الأولى الأكثر بساطة، هو في تسبيب دافع الإرهاب الإسلامي أو المسيحي: الحرب والدمار في العراق وسوريا، وما أدى إليهما ذلك من موجة لجوء ليست ضحيتها دول الشمال التي هرع إليها اللاجؤون، إنما شتات أبناء الجنوب الذي دمره أو نهبه قبل قليل الشمال، أو كرس لسياسات الاستعلاء بالتنمية وجواسيسها أو مسخ خصوصيتها بالتكريس الثقافوي قبل ذلك بعقود.

لذا لا يظهر من المجدي اجترار الوسائل اللغوية للإرهابي الحقيقي في وصم نتاج إرهابه. وقد وصمت قبل ذلك وللآن، وبصيغة رسمية، عمليات المقاومة المشروعة ضد الاستعمار بـ"الإرهابية" مثلًا، في حين أن المحتل نفسه، وبكل ممارساته لم يوصم رسميًا بـ"الإرهاب"!. لماذا لا يكون، ببساطة المعرفة الأولى، طعن المقاوم للمحتل بالسكين، رد فعل على "إرهاب" المحتل الأوّل؟ ولماذا بدلًا من توجيه متطرفي الغرب سهامهم نحو اللاجئين وسياسات اللجوء، أن يوجهوها لسياسات بلادهم الاستعمارية والتخريبية؟ أي أصل المشكلة؟!

قد يكون ضروريًا إعادة الاعتبار للغضب في ضرورة فهم العنف ضد الآخر فيما يسمى بـ"الإرهاب"، لإعادة رد هذا الغضب نحو أسبابه الجذرية

قد يكون ضروريًا إذًا إعادة الاعتبار للغضب لفهم العنف ضد الآخر فيما يسمى بـ"الإرهاب"، لإعادة توجيه هذا الغضب نحو أسبابه الجذرية، أو على الأقل لفهم الفخ واستدراك الوقوع فيه. ولن يتأتى ذلك إلا بتعرية لغة المنظومة المهيمنة وخطابها التي تنبني عليها الحجج والتبريرات التسطيحية، من خلال التأكيد على أن أي مصطلح لا يحمل في ذاته معنى قيمي، بضرورة رده إلى أصل اللغة وسياقه التاريخي. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

 من يؤيد سفاح نيوزيلندا حقًا؟

رهاب الإرهاب