أمام بعض المنشورات "الصحفية"، المصنفة نظرًا لتناقلها إعلاميًا لا محتواها وجودتها بالضرورة، تنشأ ضرورة التعليق بما تستوجبه روح الزمالة الصحفية، تأكيدًا على المساحة التي تفرضها المهنة في مساحات العالم المعاصر التي لا يعوزها مزيد من الظلام والتهكم العبثي. ما استدعى هذا التقديم هو "تدوينة" أو مقال، تبقى معضلة تصنيف لونه الصحفي برسم الوكالة الفرنسية/ أ.ف.ب، نشر يوم الخامس من حزيران/يونيو. من الواضح أنه أتى ضمن حمى "الترافيك" و"الكليك" والمال السياسي، خاصة أمام إدارة كريسيتان شيز لشؤون الشرق الأوسط، في مصاف ذكرى مرور سنة على بدء الحصار الذي تواجهه قطر من جيرانها وتوابعهم.
يعد تقديم الوكالة الفرنسية لمادة دعائية بالمستوى والنوعية الرديئة مهنيًا كالادعاءات التي نشرتها بشأن عزمي بشارة وصمة عار مهنية في مسيرة المؤسسة وسيرتها
أسلوب ليس بمستدخل على الوكالة الفرنسية، صاحبة الاستضافة الدائمة للضيوف مؤمني الأجرة والتمويل، ترويجًا لأنظمة بعينها وهجومًا على أفكار دون غيرها، وفق مقتضيات مساعي الاستخبارات الفرنسية غير البعيدة عن التدخل بشؤون المؤسسة، التي تبث وتنشر بأموال دافع الضرائب الفرنسي. مشتغلة ضده في كثير الأحيان، متدثرة بأيقونة "حرية، مساواة، أخوة"/Liberté, égalité, fraternité مدعية وراثة الثورة الفرنسية، تمامًا كتقعر جمهورية إيمانويل ماكرون الخامسة، بشعارات يسار الوسط وبرامج اليمين التي لديها.
إذ جاءت الأسطر المعنية لتحمل عنوان: عزمي بشارة من الكنيست إلى كواليس السياسة القطرية. وبينما لا متسع أو مبرر لنقد تناول اسم عزمي بشارة ومواقفه ومنجزه السياسي والأكاديمي، فلسطينيًا وعربيًا، بما هو شخصية عامة منشغلة بقضايا الفضاء العربي، بالتالي من الشرعي تداول اسمه إعلاميًا. لكن شكل التناول وسياقاته تفرض عدة ملاحظات لا يمكن لأي حس صحفي أولي عدم التقاطها والتوقف لديها. إذ وجب التنويه عندما تلتحق وكالة رسمية دولية بركب إعلام الأنظمة القمعية بجرة مدون متعجل على حجز مقعد في كورال المصفقين لحلف الظلام العربي.
اقرأ/ي أيضًا: إعلام إسرائيل الحاقد على عزمي بشارة
يستهل تناول عزمي بشارة في "التدوينة" المنشورة عبر موقع الوكالة الفرنسية، بأكثر من لغة، بفقرة تدعي أن بشارة من أبرز الأسماء المرتبطة بالأزمة الخليجية. بينما لتتبع بسيط لأحاديث الرجل وخرجاته الإعلامية وأدائه في عديد المؤتمرات الأكاديمية التي أسهم فيها عبر العام المنقضي توضح، وبلسانه، أن لا أدوار سياسية للرجل، بل إنه يكتفي بعلاقة المعلق والمحلل المنحاز للقضايا التي تمس حقوق الشعوب ومواطنتهم ومساعيهم لبناء أوطانهم من موقعه كباحث وأكاديمي منشغل بالهم العام. حاله في ذلك حال مثقفين وبحاثة كثر عربيًا وعالميًا.
في حين تدأب منصات إعلامية عدة واضحة الخطاب والتمويل والتوجيه لحشر اسم المفكر العربي عزمي بشارة في أتون الأزمة الخليجية وغيرها من القضايا السياسية التي لا تعدو علاقته بها علاقة المراقب المتتبع. فلم تتوقف أبواق البروباغندا الرسمية لعدة بلدان خليجية عن اتهام عزمي بشارة بأنه مستشار دولة قطر ومستشار أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني مثلًا، بينما أنكر بشارة الأمر علانية ونفاه، موضحًا أن ليس هناك ما يعيبه لو صح الأمر، لكن لا أساس من الصحة لهذا الادعاء، ولا لربط اسمه بالأزمة الخليجية.
من الملموس أن التطرق لنسخ مثل هذا المجهود "الحربي/الدعائي" لا يتعدى باب تبني الادعاءات والتهجمات الشخصية والتمويهات التي تمارسها منصات إعلامية كثيرة بحق الرجل. بالتالي فإن بعض جهات الأزمة الخليجية تربط اسمه بالقضية، أي حصار قطر، وهي الجريمة التي ارتكبتها هذه الجهات، حلف أبوظبي -الرياض وتوابعه، وليس هو المرتبط بالأمر. إلا إذا كانت إقامته في قطر، كبلد عربي استضافه بعد ملاحقته إسرائيليًا، واستعداء عدة أنظمة عربية لشخصه ولأفكاره، وعدم تمكنه من العودة إلى بلاده كمواطن كامل الحقوق، وترأسه لمؤسسة بحثية من الأبرز عربيًا، ومعترف بنزاهتها في الأوساط الأكاديمية عالميًا، تشكل معًا اتهامًا للرجل، أو ملفًا تشهيريًا!
لينتقل الحديث عبر موقع الوكالة الفرنسية الإلكتروني قائلًا إن بشارة عرف بمواقفه المؤيدة للفلسطينيين، وهذا فيه صواب نسبي، لكن الرجل لم يتوقف يومًا عند هذا الحد، فهو فلسطيني ملتزم بمسألة شعبه العالقة، ومناضل حزبي سبق وأن نشط سياسيًا في فلسطين، وأسس حزبًا أيضًا، التجمع الوطني الديمقراطي- بلد. أي أن عزمي بشارة لا يأتي فلسطين والفلسطينيين من باب المناصرة، بل من باب صاحب الأولوية في تبني القضية. أما الإشارة لقضية تعامل بشارة مع حزب الله، فكان من الموفق، نسبيًا أيضًا، الإشارة إلى نفيه الأمر. كما أن حزب الله نفسه، وعلى لسان أمينه العام، السيد حسن نصر الله، سبق وقال حرفيًا "أن مفكرًا بحجم عزمي بشارة أكبر من أن يلعب دور مخبر لحزب الله ويحدد له مواقع إسقاط الصواريخ". مؤكدًا نفي التهمة من طرفه أيضًا، أي حزب الله.
بينما لا تأتي قضية منفاه وعدم تمكنه، عزمي بشارة، من العودة إلى فلسطين، في باب الخشية المفترضة من الملاحقة القضائية كما ابتسرت الوكالة الفرنسية. بل إن الملاحقة كانت قد أعدت حقًا، ولما غادر بشارة البلاد، إنما فعل ذلك استنادًا إلى معلومات تؤكد تلفيق ملف "أمني" بحقه، بهدف إقصائه سياسيًا، وهو عضو الكنيست المنتخب ليمثل الجمهور الفلسطيني داخل الخط الأخضر أكثر من كون الترشح للكنيست جاء إيمانًا "بديمقراطية" إسرائيل، التي هي دولة ليست لكل مواطنيها بأية حال، وسنت قبل أكثر من عام بقليل قانونًا خاصًا، عرف باسم قانون عزمي بشارة، يختص بتجريد المواطنين العرب من جنسياتهم، بالتالي من حقوقهم كاملة، نتيجة لتلفيقات "أمنية" وملفات سرية كذلك الذي تم إعداده ضد بشارة عام 2007.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يزعج عزمي بشارة إعلام السيسي.. إلى هذا الحد؟
أما اتهام عزمي بشارة بأنه مقرب من دوائر القرار القطري، فهذا ما سبق للرجل الرد عليه كما هو موضح أعلاه. في حين طغت المغالطة على "ديسك" تحرير الوكالة الفرنسية الذي مرر مقاطع تختص بالإعلام ودور عزمي بشارة كمحرك للإعلام القطري. فأولًا لا دلائل تشير إلى ذلك ولو من بعيد، رغم عشرات الاتهامات المكرورة بهذا الشأن. أما ثانيًا فالرجل غير مختص بالإعلام وليس صحافيًا بأي معنى، ولا تتعدى علاقته بالصحافة نشر مقالات فكرية من آن لأخر خلال العقود الـ3 الأخيرة في مجلات متخصصة وصحف عدة، وحضور حلقات تلفزة كمحلل ومعلق، أو الحديث في شرائط تسجيلية وبرامج حوارية، فهل هكذا يكون دور "المحرك" الإعلامي وسلوكه؟ خاصة أن لا علاقة إعلامية، إلا من الباب المشار إليه سابقًا، أو حتى شهادات أكاديمية لبشارة في حقل الإعلام.
كما أن لدى الوكالة الفرنسية في التدوينة المستعجلة التي قدمتها محورين حرجين للأمانة المهنية، فلا خبير أو معلق عربي واحد، ممن خالطوا بشارة أو ممن لم يلتقوه يومًا حتى، تم اقتباسه أو إيراد تعليقه في نص يتعلق بأزمة عربية وإلصاق اسم شخصية عربية، جزافًا، بها. إلى جانب عدم توفر رد من صاحب الشأن نفسه، الذي لو حملت إليه أسئلة من طرف أي طرف إعلامي بتيع الأصول المهنية المتعارف بشأنها، لكان سيستقبلها بكل تواضع وثقة. إلا أن معد السطور وكاتبها لم يفعل ذلك من الدوحة أساسًا، مكان تواجد بشارة وعمله على رأس المركز العربي للأبحاث ومعهد الدوحة للدراسات العليا وليس ضمن مشاريع إعلامية أو خلافه كما ادعت الوكالة الفرنسية. بل من دبي – الإمارات. وهي طرف أساسي في حصار قطر وبذل الرشاوى التشويشية ضدها، لها ما لها ضد قطر، وتقول ما تقوله ضد عزمي بشارة، حتى عبر قنواتها الرسمية، جنبًا إلى جنب مع مئات الحسابات الموجهة عبر "السوشال ميديا". وهنا تساؤل مركزي حول قاعدة الحياد الموضوعي؟!
جاء التلفيق الذي قدمته الوكالة الفرنسية بحق عزمي بشارة مفضوحًا لناحية افتقاره أيسر الأسس التوثيقية ومبناه "الكيدي"
بينما تمت الإشارة للتحولات الفكرية لدى عزمي بشارة من الماركسية، إلى "دعم الإرهاب" حسب توصيف "تدوينة" الوكالة الفرنسية، وهو ما يفتقر لدليل أولًا، وللإيضاح الشارح ثانيًا. إذا كان المقصد تأييد نضال الشعوب العربية، ومن ضمنها الفلسطيني، إرهابًا في عرف الوكالة الفرنسية، لربما صحت التهمة التي يكيلها دافع تلك الأسطر إلى العلن هنا. لكن التعميم ورمي الكلمة بين علامتي تنصيص على عواهنها، دون إيضاح أو تدليل، أو أدنى درجات التبرير، فهذا ما يجعل التساؤل عن دوافع مثل هذه الكتابة أمرًا لا محيد عنه! بينما عرف العالم، وفرنسا من ضمنه، أصحاب تحولات فكرية وتصحيحات ونقد ذاتي، من كبار مفكري العالم وفلاسفته من ماركسيين وليبراليين وتحرريين وغيرهم.. إلخ. فهذه طبيعة الوعي البشري والفعل في ساحة الممارسة السياسية والانشغال الفكري، ولها مساحات نقاش، بعيدًا عن لهجة الغمز ولغة الاتهام، تحت محدد أساسي يكنى "حرية المعتقد" ونقاش الأفكار وجدلية تفاعلها، التي كانت في صميم شعار الثورة الفرنسية، الذي، للغرابة وسخرية المجاز الصحفي، تنسخه "فرانس برس" ضمن "اللوغو" والتترات الترويجية خاصتها.
أخيرًا، جاء واضحًا أن الألقاب والمسميات التي أطلقت ضد بشارة عبر الأسطر المنشورة لدى الوكالة الفرنسية، ليست من وحي خيال الكاتب، إنما هي نقل لما تتداوله الجبهة الإعلامية السعودية –الإماراتية – المصرية – الإسرائيلية. لكن يستغرب أن لا تتم الإشارة حتى إلى اتساع تناقض هذه التوصيفات المتبناة من ذات الجهات. وهكذا دون الخوض في تفصيليات المسميات الواردة، يكفي استعراضها لإدراك خطورة الاكتفاء بنقلها.علمًا أنه، من منطلق صحفي تمثل هذه الحالة أنموذجًا دراسيًا لما يمكن أن يعنيه الانزلاق إلى مستدركات المناكفة السياسية الذميمة والتله عن ملايين الأسطر الرصينة والجادة التي يتوقعها مليارات البشر من العمل الصحفي تجاه قضاياهم وأوجاعهم.
اقرأ/ي أيضًا: