21-أبريل-2018

كارل ماركس وفريدريك إنجلز (إفليجتوبو)

ربما يكون أهم ما قدمه العمل المشترك لـكارل ماركس وفريدريك إنجلز في شبابهما، المانيفستو/بيان الحزب الشيوعي 1847، إفادته بأن ممكنات أخرى قد تكون هنا، عالم آخر ممكن في مرحلة ما. ولا تستغرب مثل هذه الطاقة المستقبلية القائمة على الأمل عند العثور عليها في عمل مؤسس عقائديًا. إذ سبقت الأديان النصوص الأيدولوجية المؤسسة في عالم الثورة الصناعية بقرون طويلة في ابتعاث صورة هذا الممكن إلى سكان الأرض، لكنه ممكن سماوي في الحالة التوراتية.

لا يمكن ادعاء أن المانيفستو أو غيره يقدم خارطة طريق بمعالم حتمية، بل هو مجرد إشعاع بأمل يتسع تأويله

في حين تشهد الشبكة المعلوماتية اليوم، ومعها طيات الصحف ورفوف المكتبات مليارات الكلمات المصفوفة في نقد العولمة، وتشريح الرأسمالية، لكنها بالتوازي مع ذلك تشيد محتفلًة بالكيفية التي حولت فيها العولمة ملايين البشر من الفقر المهلك إلى فقر أكثر نسبية. لكن هل تشكل مثل هذه الحالة مفاجأة لنبوءة اتساع الفجوة بين المعسكرين الطبقيين المتواجهين الواردة في مانيفستو ماركس ورفيقه، بشكل خاص في ظل عملقة الدور التكنولوجي في عملية الإنتاج الاقتصادي وتكريس المضاربات؟

اقرأ/ي أيضًا: مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل

قد يظهر أن الصورة غير ذلك، وأن لا فجوة ولا صراع كذلك الذي انبنى عليه المانيفستو. يتصاعد الشك بتناول صورة العمال غير التقليديين من الهائمين بياقات مستجدة قد تكون نجت من خيارات الأبيض والأزرق الكلاسيكية. لكن ما يعيد التصورات من رحلتها الدستوبية الاعتراف بأن هؤلاء العمال، الذي يشكلون أبرز سمات ما أنتجته العولمة منذ التسعينات، حالهم حال مليارات أخرى من البشر، الذين ربما لا يأبهون "بتصنيف" موقعهم طبقيًا بقدر انشغالهم في تأمين الخبز على موائدهم، ودفع فواتيرهم، واستبدال بطاقات الإقراض المصرفي خاصتهم أو تغطية دفعاتها وفوائدها. أو إن انشغالهم الأهم في مواجهة تنويعات الكآبة الكونية.

الكل يجهد في إقناع ذاته بالمقولات المكرورة حول "أحب ما تعمل حتى تعمل ما تحب"..إلخ مما يشكك في أنه يصنع فرقًا ملموسًا لكل البكائين على طريقهم إلى النوم في ظل لا متغير أساسي، أن الممكنات رهنًا بالأدوات، والأدوات تفرز بين من يتملكها وبين من يشغلها.  

يبدو أن ما يجب أن يشكل اهتمامًا بشريًا، في ظل التصاعد التقني المتقدم والهيمنة القادمة للذكاء الصناعي، أسسًا أكثر نسبية، بل وديمقراطية عن كيفية تعامل سكان الكوكب فيما بينهم، ونظرة أحدهم للآخر، بكل التلوينات التي يكتنزها تأويل الآخر، عوضًا عن استمرار التستر المتذرع بحتمية العمل والثقافة المهيمنة.  

يقدم المانيفستو في سياق القرن 21، أي على بعد قرابة 200 عام من وضعه، نافذة أساسية لا يمكن القفز عنها باستسهال. إذ تتعلق بإدراك إمكانية الفرصة لخلق تحولات تقود إلى أشكال أخرى من التعاقدات الاجتماعية، أي وبكلماته "حرية التقدم للجزء من أجل التقدم الحر للكل". وهنا لا يمكن ادعاء أن المانيفستو أو غيره يقدم خارطة طريق بمعالم حتمية، بل هو مجرد إشعاع بأمل يتسع تأويله، من الأفضل أن لا يطمس فيما إذا عثر عليه.  

كان ماركس وإنجلز لينشغلا بسؤال: كيف لمشروع دولة العمال أن يمسي من أقسى نسخ الشمولية ضمن ادعاء مواجهة عدائية الدولة الرأسمالية؟

فيما لو بعث ماركس وإنجلز، أو أيّ منهما، في ظروف اليوم، لربما لن يتملصا من الاعتراف بالفداحة القاتلة لخطيئة حتمية الانعكاس، أو حالة سحب الانعكاسات ميكانيكيًا لديهما. لكنهما كانا ليصفقان لنفسيهما في كثير من مواضع نصهما عند رؤية مآلات العالم الذي تناولاه بالتحليل. بينما لن يستمر هذا التصفيق طويلًا قبل أن تبدأ الوصلة اللطمية على مآلات أخرى. أي المصائر التي أسهم في صنعها نصهما رفقة تجارب أحزاب شيوعية عدة ليس أولها بلاشفة الاتحاد السوفييتي أو بول بوت، ولا آخرهم شركة الحزب الشيوعي الصيني المحدودة.  

كان، ماركس وإنجلز، لينشغلا بتساؤل أساسي بشأن انعكاس العمل الذي قدماه بحب، ليقولا، كيف لمشروع دولة العمال أن يمسي من أقسى نسخ الشمولية ضمن ادعاء مواجهة عدائية الدولة الرأسمالية؟ وكيف في ذات الآوان للدول الرأسمالية أن تمضي قدمًا بدعوى الخطر الشيوعي في أكبر وأسرع تحولات التقدم الحضاري في تاريخ البشرية؟!  

اقرأ/ي أيضًا: "الدولة ضد الأمة".. خراب العالم العربي

في حين كانا ليهمسا أيضًا، أن انظروا، لديكم لا عدالة الرأسمالية ولا عقلانيتها التي تناولنا بعضًا منها، كما لديكم في عالمكم المبجل عبودية حديثة بشروط حداثية تشمل جل البشرية، وليس لصالح كلها. هدر للموارد الطبيعية والبشرية وتلويث غير مسبوق بيئيًا وإعادة إنتاج للتراكم الرأسمالي لضرورة المضاربات فقط. وبالطبع، لن يتبقى للسعادة التي تخيلاها متسع لأن تتم مساءلتها.

لا سوق يمكنه إنتاج مضاد للغباء أو الاستبداد، بل الفعل البشري الجمعي هو ما يمكنه التضاد مع كل ما يمس مساع السعادة والحرية

من بين ما قد يقترحه المانيفستو تحت شمس القرن 21  أن الحاجة لتطوير الذكاء الاصطناعي كما هي الحاجة لتنمية الطاقة البديلة ضرورات أساسية بلا شك، كما هي حاجة تطوير النقل والاتصالات ..إلخ مما يستلزم البشر وبقاء المجتمعات على قيد أفضل الممكن من أشكال الحياة. لكن أيضًا الحاجة لكسر الأنماط المهيمنة على السوق والوعي الجمعي والبنى السياسية تبقى مركزية في هذا المضمار ولا حياد عن لزوميتها، التي إن لم تكن بتوفير بدائل تراكم فوق الحطام المرتقب أسس مشروعها للفردوس الأرضي، فهي لا تعني أكثر من انتقام خرائبي يعطل التخريب الثوري، حتى على مستوى الخطاب.

هذا ربما ما يكون إحدى مسارات الطريق للسعادة والحرية التي تتضمن أوسع مروحة من التصورات المتنوعة، بما تستقيه من العمل الجماعي للصالح العالم. مدركة أن لا سوق يمكنه إنتاج مضاد للغباء أو الاستبداد، بل الفعل البشري الجمعي هو ما يمكنه التضاد مع كل ما يمس مساع السعادة والحرية. دون أن يغيب اعتبار أن كل الحضارة المعاشة اليوم قد تنتهي بضغطة على زر نووي، أو كارثة بيئية، أو حادث كوني عرضي. ولا إجابات حتمية في المانيفستو أو خلافه، إنما الأمل يكون في فعل ما يرى محل الصواب للصالح العام في مرحلة ما من التاريخ وفق موضوعيتها، عسى أن يكون صائبًا أو مفيدًا بمعنى من المعاني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تعني الاشتراكية العدالة في توزيع الفقر؟

حوار | يانيس فاروفاكيس.. الحياة قصيرة الحرب أطول!