08-سبتمبر-2017

مشهد من الجزائر لـ باتريك ألتس/ إسبانيا

النقد دائمًا ما يصاحب الإنتاج الأدبي ويكون ملازمًا له في الغالب فعلاقة الناقد بالنص علاقة موضوعية، والنقد في حد ذاته فن من الفنون الراقية، والذي "هو ثمرة لامتزاج الصورة بالمادة، واتحاد المبنى بالمعنى، وتكافؤ الشكل مع الموضوع، بشرط أن تتوفر للعمل (وحدة فنية) تجعل منه موضوعًا جماليًا يتمتع بصفة ذاتية" (1).

النقد عند القارئ العربي اليوم يعني الذم والقدح، وربما تعديد المساوئ ونقاط الضعف

النقد ضروري للحياة وللفن وللأدب، إذ يعد هدفه بالنسبة للأدب إبراز قيم الجمال أولًا، ومن ثم إبراز مواطن الضعف ثانيًا، بغية تصحيح المسار ورأب الصدع. فالناقد الحقيقي دائمًا ما يقدم خدمة جليلة للأدب فهو الدليل الذي يعتمد عليه القراء، وهو الرقيب الذي يرسخ مبدأ الجد ويضمن النوعية وجودة العمل. ولكن يحدث في مرات كثيرة أن تختلف الآراء وتتضارب من ناقد، أو من قارئ، إلى آخر. فلا يمكن لكاتب معين أن يرضي جميع الأذواق. فمسألة جمال النص مسألة نسبية ولا يمكن حصرها ضمن قواعد محددة. والظاهر أن علاقة القارئ بالناقد اليوم أصبحت متأزمة وصورة النقد باهتة، نظرًا لأن نصوص النقاد لم تعد تعتمد على البساطة ولا تستهدف القارئ العادي بالدرجة الأولى. ومهمة الناقد كما نعلم هي صناعة الذوق وتحسينه لدى الجماهير وتوجيههم دائمًا نحو الأفضل. وللأسف ليس هذا ما يحدث، فالأحكام المسبقة التي تشبه في انتقالها ما يمكن تسميته المتضاعفات. "والتي  يطلق عليها اسم (الميمات)، تجسد فكرة الوحدة القائمة على الانتقال الثقافي أو الوحدة القائمة على التقليد وهي بمثابة الجين من العقل. ومهمتها تناسل الميم (الفكرة) مثل ميم الله مثلًا عبر القفز من دماغ إلى آخر بواسطة مسار يمكن تسميته (التقليد)" (2).

اقرأ/ي أيضًا: "الجنس الموظف" يبحث عن عمل

وهذا ما جعل القارئ العربي يتهم كثيرًا من الكتاب بالزندقة والكفر، خاصة بعد صدور فتاوى بالقتل في حق هؤلاء الكتاب – كما حدث مع كمال داوود مثلًا- سمعنا أن بعض الكتاب مكرسون لإيديولوجيات معينة، وأن أدبهم سخيف لا يرقى لأن يكون عالميًا، ولكن الحقيقة كانت دائمًا غائبة عن أعيننا، وكل هذا يحدث بسبب تعطل آلة النقد وعجزها عن توضيح الخلل وإعطاء كل ذي حق حقه. وانتشار هذه الميمات بشكل واسع، أضر بقيمة الأدب، وفرض قيودًا و حصارًا على حرية الكاتب.

فقد النقاد أنيابهم وما عادوا يعضون، على الرغم من الإسراف في استعمال المصطلحات الرنانة وتذييل مقالاتهم بالمراجع. هذه السفسطائية لم تعد تجدي نفعًا. النقد لم يعد صادقًا، انحرف عن مساره الأول وعن رسالته الحقيقية. أدى ذلك بدون شك إلى تدني مستوى القراء واختلطت الأمور أكثر، حتى أن كلمة النقد عند القارئ العربي اليوم تعني الذم والقدح، وربما في أفضل الحالات هي تعديد المساوئ ونقاط الضعف. كيف يمكن للقارئ العربي الآن أن يستوعب الجمال بكل معانيه داخل النص.

القارئ العربي عمومًا دوغماتي لا يستطيع تحرير فكره لاستيعاب النص بكل قيمه، خاصة إذا كانت النصوص جريئة. فموضوعات الجنس والدين مثلًا تعد تابوهات محرمة شرعًا وعرفًا، ولا يجب الكتابة عنها. لكن القراءة عن الخمر لا تعني أنك ستصبح مدمنًا للخمر. والقراءة عن الجنس لا تعني أنك مارست الزنا. "إننا في الطبيعة لا نسر ولا نعجب إلا بالمخلوقات النموذجية، وأما الفن فإنه ليس من الضروري للموضوع الجمالي أن يكون نموذجًا جميلًا من نماذج الإنسانية أو الحياة بصفة عامة. وآية ذلك أن أشد ما في الطبيعة قبحا قد يكتسب في مجال الفن صبغة استطيقية واضحة" (3).

لم يتسبب غياب النقد الفعّال في تدني الذوق فقط، بل أدى إلى دفن بعض الأعمال الجيدة على حساب الأعمال الرديئة. ما ذنب القارئ وهو الخاسر الأكبر في كل ما يحدث من تردي مستوى الكتاب. وليت الأمر توقف عند هذا الحد، فنجد أنها تنال حصة الأسد من المقالات النقدية، وعند قراءة تلك الروايات يخيب ظن القارئ ويصدم لأن الحقيقة غير ذلك تمامًا. حيث إنها لا تتوافق بتاتًا مع كل ذلك الكم الهائل من المديح والثناء. إنها كالبالون الهش الذي نفخ بالهواء أكثر من اللازم حتى تفجر ولم يبق منه شيء في الأخير. إذن أين المشكل هنا؟ هل الناقد مخطئ أم أن جميع القراء لا يفقهون شيئًا؟

لم يتسبب غياب النقد الفعّال في تدني الذوق فقط، بل أدى إلى دفن بعض الأعمال الجيدة

هناك روايات صدرت ولم نقرأ عنها شيئًا. ولكنها تحمل من قيم الجمال ما يجعل القارئ يطرب لجزالة اللفظ ودقة المعنى، حتى أنك تشك في أن كاتب هذه الرواية لا بد أنه كاتب آخر، وعندما تتحقق من الأمر سيواجهك سؤال حتمي: أين هم النقاد؟ ولماذا لا يكتشفون كاتبًا جديدًا كما يحدث في الغرب؟ إن كان العمل يستحق الاهتمام فعلًا ألا يجب عليهم إيصال هذا العمل وتقديمه إلى الجمهور بأمانة؟ هل تنقصهم الشجاعة الأدبية أم تعوزهم آليات النقد الفعال؟

اقرأ/ي أيضًا: الكتابة ومساوئ التصنيف

نصدق في أغلب الأحيان كل ما يكتب من مقالات عن صدور عمل جديد أو فوز رواية بجائزة أدبية. لكن القارئ لهذه المقالات المنمقة سيفقد ثقته بكل ما يكتب، وسيشعر القارئ بأن هناك تواطؤًا خفيًا بين الكاتب والناقد لخداعه من أجل شراء هذا الكتاب. بعد قراءته سيرمي القارئ هذا الكتاب على الأرض ويطؤه برجليه ثم يلعن الناقد والكاتب معًا. مطلقًا بذلك الأدب الجزائري المكتوب باللغة العربية بدون رجعة على حساب الأدب الأجنبي أو المكتوب بالفرنسية. إن خداع القارئ أمر لا يستهان به ولا يمكن السكوت عنه أبدًا. فمتى تستيقظ ضمائر النقاد ومتى يسترجع النقد مكانته الحقيقية؟

 

المراجع:

1 – مشكلة الفن - زكريا إبراهيم.
2 – الجينة الأنانية - ريتشارد داوكينز.
3 – مشكلة الفن - زكريا إبراهيم.
 

اقرأ/ي أيضًا:

أمبرتو إيكو وتجديد روح المثقف

تريد أن تقتل كتابك؟ انشره في الجزائر