"أنا فخورة بالإنجاز الذي حققه ويمنح تونس أول ذهبية، هو شاب تونسي عادي جدًا ويتحلى بالتواضع، لكن مسار حياته صعب جدًا بسبب انضباطه في التدريبات "، بين الفخر والصعوبات، استطاعت أميرة بن يوسف والدة السباح التونسي البطل أحمد أيوب الحفناوي، أن تلخص مسيرة ابنها التي تروي لنا قصة حلم رافقه منذ سنواته الأولى بالحياة، وحكاية تحدي وإصرار عائلية.
موهبة وقدر
لو أمعنت النظر في وجه أحدهم سترى عيناه تشع ثأرًا، و ستشعر برغبة جارفة في الانتقام تتملكه، وإذا سنحت لك فرصة الجلوس لتحدث أحدهم فمن الصعب نسيان دوافعه، وإذا امتلكت قليلاً من الوقت لتقليب منطلقاته، فستكون حتمًا فريسة سهلة أمام تيار الإعجاب الجارف الذي يشدك نحوه، ولكن ما يشدك أكثر هو أن الزمن لدى هؤلاء لا يقاس بالدقائق والثواني، بل تدق نبضاته على عداد الحركة، فهم لا يتوقفون عن السعي بشكل مستمر، كأن ما يفوتهم ليس الخصم بل هو قطار الحياة وأحلام الصبا، هكذا هم الأبطال الأولمبيين، سيما القادمين من الضواحي وأبناء المهمشين، ومنهم الرجل الكبير ذو الـ18عامًا أحمد أيوب الحفناوي.
المتتبع لمسيرة الحفناوي سيدرك جيدًا أن التحديات كانت هي القاعدة ولم تكن الاستثناء في جل مراحل حياته
فالمتتبع لمسيرة الحفناوي سيدرك جيدًا أن التحديات كانت هي القاعدة ولم تكن الاستثناء في جل مراحل حياته، فقد كان يدفع للمقاومة دفعًا منذ نعومة أظافره، ما رسم على شخصيته طابع من الجدية جعله سابقًا لعمره، وفق قول مدربه جبران الطويلي "كان منذ صغره ينافس في النهائيات مع الفئات الأكبر منه سنًا".
ينتقل شغف الرياضة في عائلة الحفناوي من الأب للابن، فمنذ أن تفتحت عينا أحمد على الحياة في الرابع من كانون الأول/ديسمبر 2004، بمدينة المتلوي جنوب البلاد التونسية، كان شاهدًا على شغف والده محمد الحفناوي برياضة كرة السلة، هذا الأخير الذي لم تثنيه مطبات التاريخ ولا الجغرافيا، على تسلق أعلى الدرجات بكرة الرمية الثلاثية، لغاية الوصول لتمثيل المنتخب الوطني لبلاده، فلم يبق له من الرميات إلا واحدة يضعها في شباك ابنه الصغير، تورثه حب اللعبة وتضعه على درب الأبطال السابقين.
" القدر"، هي الكلمة الوحيدة التي من الممكن أن تصف علاقة أحمد بحوض السباحة، فكعادة كل طفل ولد لعائلة من الطبقة المتوسطة بتونس، لم تكن سبيله لممارسة السباحة داخل الأحواض ميسرة بسبب الظروف المادية والمنطقة الجغرافية، بل لم تكن تخطر له على بال؛ حيث السبيل الوحيدة الواضحة أمامه في ذلك الوقت هو استكمال حلم أبيه بكرة السلة، من أجل ذلك دأب الحفناوي منذ حداثة سنه على مرافقة أبيه لتدريبات كرة السلة، وهناك بالضبط كان الحفناوي على موعد مع الوقوع في غرام رياضته الجديدة.
نعم، هي فقط بعض حصص السباحة التي تخللت تمارين كرة السلة، كل ما أدرك أحمد من خلاله سبيله الجديد، ومنها بالذات عقد صبي الستة سنوات العزم على النجاح، كأن الطريق أصبحت واضحة المعالم في ذهنه، فهي أحواض السباحة ولا غيرها، السباحة التي وجد فيها الحفناوي ضالته منذ أول لقاء له مع الماء، وسرعان ما ارتسم في قلبه شغفها، إذ يقول متحدثًا عن تلك الفترة، "في البداية لم أريد السباحة، لكن مع مرور الوقت بدأت في التعود عليها ثم وقعت في حبها ".
في غضون ذلك ومع مرور السنوات، شغف أحمد بالسباحة قاده للالتحاق بأكاديمية الترجي للسباحة بالعاصمة التونسية، قبل أن ينضم للمنتخب الوطني التونسي والمعهد الرياضي " بيار دو كوبرتان"، حينما بدأت موهبته في الانفجار بشكل لافت في سن الحادي عشر، وبالرغم من هدوءه المعهود وقلة كلامه، إلا أن أحمد في الحوض هو شخص آخر كما يصفه مدربه في الترجي جبران الطويلي "أيوب كانت عنده العديد من الخصال الفنية التي يتفوق فيها بدرجة كبيرة عن أقرانه الذين يتدربون معه"، لذلك لم يكن يوجد شيء قادر على إيقافه، فحتى إرادة أبيه التي كسرت في رؤية ابنه نجمًا بكرة السلة، لم تكن لتمثل عقبة أمامه، بل كان ذلك كل ما احتاج إليه أحمد لجعل نفسه المصدر الأول لفخر عائلته، عبر مسيرة ذهبية من التتويجات.
مسيرة ذهبية
على الرغم من صغر سنه استطاع الحفناوي منذ التحاقه بأكاديمية الترجي والمنتخب الوطني، أن يسيطر في ظرف وجيز على البطولات الوطنية للسباحة الحرة، في صنفي ال 400 متر وال 800 متر، وبطولات شمال إفريقيا 2016، وتأكدت موهبته أكثر، حين ضرب موعدًا جديد مع التألق بعمر ال15 عامًا في بطولة إفريقيا للسباحة التي أقيمت بالجزائر سنة 2018، والتي تمكن البطل التونسي خلالها من حصد ثلاث برونزيات وفضية، وعلى الرغم من فترة الفراغ التي مر بها الصبي في الألعاب الأولمبية للشباب ببوينس آيرس 2018، واصل العمل بجديته المعهودة لينتقل للمنافسة بالبطولة الفرنسية والتي حصد من خلالها برونزية وذهبيتين، في كل من ال400 و800 متر.
"لا أستطيع تصديقه، إنه حلم وأصبح حقيقة، كان عظيمًا، كان أفضل سباق لي على الإطلاق "، كان هذا وصف الحفناوي للحظة الأهم في مسيرته والتي تحققت بشكل فاجأ الجميع بذهبية ال 400 متر سباحة حرة في أولمبياد طوكيو 2020، هذه الأخيرة التي مثلت الموعد الأول لأحمد مع الألعاب الأولمبية للكبار، والتي كانت أيضًا بوصف مدربه الطويلي " أولمبياد طوكيو كان هدفها الأساسي بالنسبة لنا، بمثابة المشاركة التحضيرية للألعاب المقبلة في باريس 2024 "، لكن أحمد كعادته منذ صغره في كسب التحديات، استطاع بطريقته الخاصة و بموهبة كبيرة أن يجعل من حوض ال400 متر طريقًا لرفع اسمه عاليًا.
لماذا غاب الحفناوي عن المنافسة في 2022؟
من أجل تحقيق إنجازه بطوكيو، والاستعداد له بشكل جيد، قرر أحمد بشكل مشترك مع عائلته ومدربه أن يضحي بعامه الدراسي ذاك بالباكلوريا أو الثانوية العامة، والذي كان يمثل له بدوره بوابة لحلم آخر لا يقل أهمية عن الذهب الأولمبي، حيث سيخول له الالتحاق بجامعة "أنديانا الأمريكية للسباحة"، المتخصّصة في صناعة الأبطال.
لذلك ومنذ عودته لتونس من اليابان، وخاصة مع بعض أوجه التقصير بحقه التي لحقته من الاتحاد التونسي للسباحة على غرار قرار الإقالة التعسفي لمدربه وصديق دربه جبران الطويلي من المنتخب، وغيرها من الأمور التي ساهمت في الخيار الذي أخذه الحفناوي بالانقطاع لمدة عن السباحة من أجل التركيز بالدراسة، وتحقيق مبتغاه في الذهاب لأمريكا والمنافسة مع نخبة الرياضيين في العالم، وهو ما جعله يتغيب عن جل المنافسات التي أقيمت عام 2022، والتي منها بطولة العالم للألعاب المائية التي أقيمت في بودابست وكذلك الألعاب المتوسطية.
بعد عام انقطع فيه الحفناوي عن المنافسات وكلله بالالتحاق بالجامعة الأمريكية، يعود البطل التونسي من جديد ويضرب لنفسه موعدًا مع الذهب في بطولة العالم للألعاب المائية التي أقيمت منذ أيام في مدينة فكوكا اليابانية، فعلى الرغم من دخوله في المرتبة الـ23 بالتصنيف العالمي للسباحين، إلا أنه واصل ممارسة هوايته في تحقيق المستحيل وظفر بذهبيتين في 800 متر و1500 متر وفضية 400 متر، بإنجاز تاريخي وضع تونس بالمرتبة السابعة في اللائحة النهائية للبلدان المشاركة في بطولة العالم للألعاب المائية.