"السيّد الرّئيس".. وإن كان يُخاطب بها كل القضاة في الحجرات وقاعات الجلسات، فالأصل أن لا يُخاطب بها إلا الأشراف، وهو عند أهل القضاء أشرفهم، وإن جاوزنا صيغة التفضيل، فهو حامل لواء الحقّ والشّرف منذ زمن كان فيه قول الحق نقمة والشرف تهمة، إنه القاضي أحمد الرّحموني، الرئيس التاريخي لـ"جمعية القضاة التونسيين"، ورئيس "المرصد التونسي لاستقلال القضاء".
يريد الكثيرون في تونس طمس الدور المحوري للقاضي في قضايا الإرهاب، وجعل الأمني، وحده لا شريك له، باحثًا وقاضيًا وسجّانًا
ولقد عاد الرّحموني للواجهة بقوّة هذه الأيام في تونس، وربما يكتشفه العديد الآن ممّن لم يعرفوه قبل، وذلك بعد مشاركته في برنامج تلفزي مؤخرًا تناول خلالها ما يتعلّق بأحد ملفّات الإرهاب. وذلك في ظلّ هجمة، سابقة، وباقية، ويبدو مبرمجة، على القضاء التونسي في ملفّ الإرهاب، أين يريد الكثيرون طمس الدور المحوري للقاضي في كشف الحقيقة، وجعل الأمني، وحده لا شريك له، باحثًا وقاضيًا وسجّانًا.
وقد عرّت مداخلة الرّحموني محدودية أداء بعض أجهزة الأمن في القيام بأبحاثها، كما ندّد بالتعذيب جُرمًا بصفة أوليّة، وبتمثّله كوسيلة لقبر الحقيقة لا كشفها كما يظنّ البعض، وهو ما جعل وزير التربية والتعليم يغادر البرنامج، في مُزايدة زاد فيها اصطناع البطولة تعرية.
ففي زمن عادت فيه الضباع مكشّرة أنيابها، يُقال له أصالة زمن بناء دولة القانون والجمهورية الثانية، لم يكن للرّحموني خيار إلا استئناف جولة الدفاع عن الحقوق واستقلالية القضاء. وهي عودة سبع أمام زمجرة ضبع، خُيّل أنه دُفن وهو لا يزال قاتلًا لا مقتولًا. ولذلك، لم يكن من قبيل الصّدفة أنه اختار "تشكيل رأي عام داعم لدولة القانون واستقلال السلطة القضائية" كهدف مُعلن لـ"المرصد التونسي لاستقلال القضاء" الذي أنشأه بعد الثورة، بعدما أتمّ مهمّته التاريخية في جمعية القضاة، قلعة النضال في وجه نظام الفساد والاستبداد.
والرّحموني ربّما قد اختارته جادة الشرف قبل أن يختار أن يتخذ منها مسلكًا، فعمّه، الذي يحمل اسمه، هو أحد رجال معركة التحرير الوطني، وقد اُعدم في زمن بورقيبة بداية الستينيات، مع عدد من القيادات التاريخية لمعركة الاستقلال فيما عُرف حينها بقضية محاولة الانقلاب.
وحينما كان بعض القضاة يبيعون ضميرهم في سوق النخاسة، وكان البعض الآخر همّه إتمام دراسة ملفّاته مستكينًا خوفًا من نقلة تعسفيّة، كان الرّحموني يقود معركة استقلال القضاء بقيادة المكتب الشرعي لجمعية القضاة.
حينما كان بعض القضاة يبيعون ضميرهم في سوق النخاسة، كان الرّحموني يقود معركة استقلال القضاء زمن بن علي في تونس
وما يُعاب على "السيّد الرّئيس"، وما هو بعيب، أنه يقول الحقّ بصوت عال فيخدش "حياء" وزير، ويثير هلع "عصابات" تُسمّى نقابات أمنية سبق وضربها بسهم فجهر علنًا بنواياها وأهدافها، وحينما يقول قاض، وهو ليس أي قاض، ما يقوله، فتلك مجلبة لنباح كلاب لا تستكين. وأن تكون مع الحقّ، فتلك جمرة في زمن المسخ، فإما أن تحملها شريفًا أو ترمها مستقيلًا، وحينما يستقيل أهل الحقّ من قول الحقّ، فذلك، وهو عين الظلم، عند ابن خلدون "مؤذن بخراب العمران".
ولذلك فمواقف أحمد الرّحموني، وآخرها الفاضحة لهشاشة العمل الأمني والتي يجيب فيها على متهمي القضاة بإطلاق سراح إرهابيين، والرّافضة للتعذيب وتبريره، قد حفظت ماء وجه رجل مثقل بهموم زمنه. فهم، الآخرون، يريدون قاضيًا يُؤمر فيكون الحكم والفصل لرجال الأمن، ويريدون أن يكون المُناب أصيلًا، والأصيل مُنابًا. فصدح الرّحموني بما يجب أن يُقال لردّ هجمة منظّمة لضرب استقلالية القضاء والتأثير على القضاة، لذا بدا صوته نشازًا في آذان من اتخذوا من الباطل مهربًا ومن تجميله صنعة، وهو في الأصل صوت أخذ من إحقاق الحقّ سلّمًا، ومن ترنيمة إحلال العدل مذهبًا.
وأن يُهاجم اليوم بشراسة من اللئام، الواقف مع الجور بقول صريح ومن في سماعه صوت فحيح، فذلك ليس بالمستجدّ عليه، فما تُضرب إلا الشجرة المُثمرة. وحينما يُصبح الحقّ متواريًا وراء ظلال المتاجرة بالقضايا واصطناع البطولات الوهمية، ويُصبح أهله في زاوية مركونة لا تعرفها إلا الشمس، فلا يُستذكر إلا قول علي كرّم الله وجهه "لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلّة سالكيه". والرّئيس الرّحموني تلك جادتّه التي دونها لم يزغ، وعنها لم يضع، وبها لعزّه صنع.
وفي صولته الأخيرة، بانت معركة استقلال القضاء، أمّ المعارك، معركة مستمرّة ليستمرّ معها وكيلًا شرسًا بوكالة عمّدها الزمن، فهو يعلم أنه صاحب أمانة ولديه واجب رسالة، وهو أمام "التزام" محلّه الحقّ، وعند أهل الحقّ لا يُنطق إلّا بالحقّ.
اقرأ/ي أيضًا: