19 شهادة مرعبة تضمنها تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" الأخير عما يحدث في أقبية سجون النظام المصري، تحت عنوان "نحن نفعل هنا أشياء لا تُصدق"، في إشارة واضحة إلى ما لا يمكن التبنؤ ببشاعته وخرقه لكل القوانين والأعراف الدولية والإنسانية.
دفع ذلك التقرير الأخير السلطات المصرية إلى حجب موقع هيومن رايتس ووتش، بعد أقل من يومين على صدور التقرير، لينضم إلى مئات أخرى من المواقع المحجوبة، موسومًا بالنجاح في الانتشار على الأقل، ليكون مصيره الحجب مباشرةً.
بعد أقل من يومين من نشر تقرير التعذيب في السجون المصرية، حجبت السلطات المصرية موقع هيومن رايتس ووتش
التعذيب في مصر.. ثقافة سادية سائدة
لعل أبرز ما ألقى التقرير الضوء عليه، هو أنّ التعذيب في مصر يكاد يكون جزءًا من ثقافة الأجهزة الأمنية، التي تعتمد أساسًا على التعذيب في انتزاع الاعترافات، فضلًا عن أنها تستخدمه وسيلةً للترهيب والتخويف، وليس فقط جمع المعلومات. ليصبح التعذيب واقعًا مُعاشًا يوميًا في السجون وأماكن الاحتجاز بمصر، باعتباره جزءًا أصيلًا منها، يرقى به إلى مرتبة ثقافة سادية سائدة في هذه الأماكن.
اقرأ/ي أيضًا: فيديو: سجون مصر
يصف التقرير التعذيب في مصر بالوباء لانتشاره على مدى عقود طويلة، وُثّق خلالها مرات عديدة من قبل منظمات حقوقية محلية ودولية، مُشيرًا في هذا الصدد إلى تقرير سابق للمنظمة عام 1992 بعنوان "خلف الأبواب المغلقة"، والذي رصد ممارسة ضباط الشرطة المصرية للتعذيب حتى أصبح نمطًا سائدًا، وليست مجرد حالات فردية.
وأكد التقرير على أنّ التعذيب في مصر أصبحت له مؤسسات تتبناه كاستراتيجية وحيدة للتعامل مع المقبوض عليهم، وغالبًا ما يكون ذلك من خلال جهاز أمن الدولة (الأمن الوطني حاليًا)، خاصة في مطلع التسعينات، أي بعد اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات.
وأورد التقرير كذلك بيان المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عام 1991، والذي قال إن "السلطات المطلقة التي تخول الأجهزة الأمنية العمل فوق القانون وإعطائها وضعًا استثنائيًا، هي التي منحت التعذيب صبغة رسمية معتمدة من الدولة"، مُشيرًا إلى تحقيق سريٍّ فتحته لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في نفس العام، بعد تلقيها أدلة دامغة على ممارسة التعذيب في البلاد.
حينها رفضت مصر السماح لأعضاء اللجنة بزيارة البلاد، وهي سياسة قديمة يتبعها النظام لرفض وإنكار هذا النوع من التقارير والتحقيقات الحقوقية، رغم أنّ مصر كانت قد صادقت على اتفاقية منهاضة التعذيب الدولية عام 1986.
ومما أشار إليه التقرير أيضًا سياسية الإفلات المستمر من العقاب لكل ضباط وموظفي الأجهزة الأمنية في الدولة الذين تورطوا في ممارسة التعذيب. وهي سياسة تقول المنظمة إنها ضمنت توحش وسيطرة التعذيب، وتحوله إلى نشاط مؤسسي داخل وزارة الداخلية على وجه الخصوص، إذ ذكر التقرير ما نصه: "یفلت مرتكبو أعمال التعذیب على الدوام تقریبًا من العقاب"، وذلك بسبب "إخفاق النیابة العامة والسلطات الأخرى في وقفه أو معالجة التظلمات".
ولفت التقرير إلى قضية هامة في هذا الصدد، متمثلة في أن القانون المصري نفسه، ساعد عناصر الشرطة والأمن الوطني على الإفلات من العقاب في عدة حالات، مُوضحًا: "بإمكان عناصر الشرطة والأمن الإفلات من العقاب المناسب لجریمة التعذیب عندما یوجه وكلاء النیابة إلیھم تھمة انتھاك المادة 129 من قانون العقوبات، والتي تجرّم القسوة، وعقوبتھا تصل إلى سنة سجن أو دفع غرامة 200 جنیه أي 11 دولار أمریكي فقط". ومعظم قضايا التعذيب التي تُحوّل إلى المحكمة، تحول بموجب هذه المادة، وفقًا لقاضٍ عمل في النيابة العامة لعشر سنوات.
نقاط مثيرة للاهتمام أوردها التقرير
لعله من المثير للاهتمام ما أورده تقرير هيومن رايتس ووتش، عن أنّ مصر هي أوّل دولة تخضع لتحقيق علني من قبل لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة طيلة تاريخ عمل اللجنة الممتد لـ30 عامًا.
انتقد التقرير أيضًا الضغوط التي تواجهها المراكز الحقوقية المعنية بقضايا التعذيب وتأهيل ضحاياه، وعلى رأسها مركز النديم الذي اُغلق بأمر من السلطات المصرية، وكان أبرز المراكز الحقوقية المصرية المعنية بتأهيل ضحايا التعذيب، وتوثيق حالات التعذيب في مصر.
بات التعذيب لدى للأجهزة الأمنية في مصر، ثقافة ونمطًا سائدًا، سواء لانتزاع الاعترافات أو للتخويف والترهيب أو حتى لمجرد التعذيب!
أشار التقرير أيضًا إلى المطالبات الحقوقية بتعديل القانون رقم 94 لسنة 2003 الخاص بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، بما يمكن المجلس من القيام بزيارات مفاجئة أو سرية وغير معلنة لأماكن الاعتقال والاحتجاز، والتدخل برفع الدعاوى وتقديم الشكاوى مباشرة للنيابة العامة.
اقرأ/ي أيضًا: الدم خيار الداخلية المصرية
ومن بين النقاط اللافتة التي أشار إليها التقرير، أنه منذ ثورة 25 يناير 2011، لم تهتم بشكل جاد وكافٍ أي حكومة من الحكومات المتعاقبة سواءً العسكرية أو المدنية، بفتح تحقيق شامل في انتهاكات وزارة الداخلية، رغم أنّ هذه الانتهاكات، ورغم أن الشرطة المصرية، كانت على رأس أسباب اندلاع الاحتجاجات التي أدت إلى إسقاط الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك!
نظرية المؤامرة.. ملاذ الأنظمة غير الديمقراطية للهروب
تبدو كلمة "مؤامرة" كالمضاد الحيوي الذي فقد تأثيره أمام الضربات المتلاحقة لنتائج التقارير الحقوقية وما تفشيه من فظاعات تجري في غياهب السجون العربية. وهي بمثابة موضة قديمة حديثة، تتمسك بها الحكومات العربية حين لا تجد ما ترد به على هكذا تحقيقات.
وفي متن تقرير هيومن رايتس ووتش، يورد واقعة حدثت في عام 1995، بعد أن أعدت لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة استنتاجات تقريرها السري الذي بدأت إجراءه عن التعذيب في مصر سنة 1991، حيث عمدت السلطات المصرية للضغط على اللجنة لعدم نشر ملخص استنتاجات تحقيقها، تحت حجة أنّ ذلك قد يُفسّر في إطار "دعم الجماعات الإرهابية"، وهو ما اعتبرته السلطات المصرية آنذاك، انطلاقًا من نظرية المؤامرة، تشجيعًا لـ"الجماعات الإرهابية" للمضي قدمًا في مخطاطتها!
بطريقة أخرى يعني ذلك أن السلطات المصرية وجهت بشكل غير مباشر اتهامًا للجنة الأممية بتشجيع الجماعات الإرهابية على ممارساتها. وهكذا يكون الحال في كل مرة تقريبًا!
أما في معرض ردود الأفعال على تقرير هذا العام، والذي يحمل تفاصيلً أكثر بشاعة، فقد ادعت الصحف المصرية المقربة من النظام والداعمة له، أن التقرير متناقض ويهدف إلى النيل من سمعة مصر، وهي أيضًا تهمة تأتي في سياق ما اعتادت السلطات المصرية الترويج له من نظريات المؤامرة واستهداف العالم كله لمصر!
الغريب في الأمر أنّ إحدى أعضاء لجنة "حقوق الإنسان" في البرلمان المصري وهي مارجريت عازر، اتهمت هيومن رايتس ووتش باعتمادها في إعداد تقريرها على ما وصفتها بـ"المنظمات المأجورة التي تعمل ضد مصر"، وادعت أن من بين هذه المنظمات قناة الجزيرة!
الأمر ليس بدعة من الزمن، فلطالما كان رد الأنظمة العربية، وخاصة المصرية، على تقارير المنظمات الحقوقية، هو الإنكار و النفي، والتمسك بنظرية المؤامرة، كما هو الحال مع نظام عمر البشير في السودان مثلًا، الذي أفاد تقرير لهيومن رايتس ووتش يعود لعام 2014، باستخدام السلطات الأمنية السودانية، العنف المفرط تجاه متظاهري احتجاجات أيلول/سبتمبر 2013، والتي جاءت ردًا على إعلان البشير البدء في تنفيذ إجراءات تقشفية على رأسها رفع الدعم عن الوقود. حينها، وكالعادة، رفضت السلطات السودانية الاعتراف باستخدامها العنف الذي أدى لمقتل متظاهرين، وعزت ما حدث إلى من وصفتهم بـ"المخربين والخارجين عن القانون"، ولم تنسَ أيضًا أن تتهم "المؤامرات الأجنبية"!
تتفق الأنظمة غير الديمقراطية في هروبها من الاتهامات الموجهة لها، باللجوء لنظرية المؤامرة أو "معاداة السامية" كما تفعل إسرائيل
ولعل نظام بشار الأسد في سوريا، هو المثال الأكثر وضوحًا في اللجوء لنظرية المؤامرة لتبرير مجازره التي نفذها ضد شعبه على مدار ست سنوات، فضلًا عن ممارسات التعذيب بالجملة في سجونه، والتي تقول تقديرات إنه بسببها قتل أكثر من 60 ألف سوري.
اقرأ/ي أيضًا: الداخلية المصرية.. قلعة القتلة والفاسدين الموصدة
تلك الحجة في سماجتها تشبه الحجة التي تلجأ إليها سلطات الاحتلال الإسرائيلي مع كل انتهاك ترتكتبه ضد الفلسطنيين، وإن كانت تُلبس تلبس المؤامرة ثوب كلاشيه "معاداة السامية"، ليصبح أي انتقاد يُوجه للاحتلال الإسرائيلي ضربًا من "معاداة السامية". وهناك أيضًا في أدبيات سلطات الاحتلال مؤامرة "اليهود الكارهين للذات"، وتقصد بهم المفكرين اليهود المنتقدين للسياسات وممارسات سلطات الاحتلال, وهكذا تُمرر هذه الأنظمة انتهاكاتها، بنظرية "المؤامرة" التي لم تفقد بريقها بالنسبة إليهم رغم أنها باتت مملة.
اقرأ/ي أيضًا: