06-أغسطس-2017

توجه نحو خصخصة القطاع الصحي في المغرب (أ.ف.ب)

بينما كانت الطفلة إيديا، ذات الثلاث سنوات، تستمتع باللعب في درج إحدى الزوايا خارجًا، في إقليم تنغير بالجنوب الشرقي بالمغرب، سقطت على وجهها متألمة، فنقلتها والدتها إلى المستوصف المحلي، الذي لم يسعفها في العلاج بسبب عدم توفر جهاز "السكانير" به لتشخيص الحالة، مما استدعى الطبيب هناك إلى أن يشير لأهلها بنقلها إلى مستشفى الجهة بمدينة الراشدية، فاكترت الأسرة الفقيرة سيارة متهالكة حملت عليها ابنتها المريضة في اتجاه مستشفى الراشدية البعيد عنها بمسافة 70 كلم، لتكتشف الأسرة مرة ثانية نقص التجهيزات والأطر الطبية، فحوّلها الأطباء هناك بدورهم إلى مستشفى مدينة فاس، البعيد بـ470 كلم، لكن الأوان كان قد فات، حيث توفت إيديا بعد ساعة من وصولها بسبب نزيف داخلي في الجمجمة.

تؤرق معضلة الصحة المغاربة خاصة الفقراء منهم، لعدم توفر مستشفيات عديد المناطق الداخلية والريفية على معدات وأطر طبية تضمن علاجهم

كانت تلك قصة حالة واحدة من قصص مرضى الجنوب الشرقي، التي أثارت قبل بضع أسابيع سخط الرأي العام المغربي من حال الصحة في المغرب الذي بات يثير الشفقة، إذ كيف لجهة مثل الراشدية يقطنها أكثر من مليون ونصف نسمة، أن لا تتوفر مع ذلك على مستشفى مجهز واحد صالح للعلاج!

اقرأ/ي أيضًا: وفاة "إيديا".. الحرمان من العلاج يثير استياء المغاربة

الصحة في المغرب مهددة وأمراض منقرضة تعود

لعل معضلة الصحة هي أكثر ما يؤرق المغاربة، ولا سيما الفقراء منهم، باعتبارها مشكلة تهدد فناء أعمارهم قبل موعدها، في ظل غياب مستشفيات عمومية مجهزة وبأطر طبية كفؤة، في حين لا يتردد سياسيو البلد وكبار موظفيه وأثريائه من الطيران إلى مستشفيات فرنسا بمجرد إصابتهم بالمرض أو إصابة أحد أفراد عائلاتهم، بحيث ليست لديهم أدنى ثقة في المستشفيات المغربية، بما فيها المصحات الخاصة المكلفة.

وضعية يعيشها القطاع الصحي المغربي، وصفتها "الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة" بـ"الأسوأ في تاريخه"، حيث قالت في تقرير لها حديثًا، حول واقع الصحة العمومية، إن "ما يناهز %70 من المستشفيات المغربية العمومية الموزعة على مختلف الجهات غير صالحة، ويجب إغلاقها لأنها لا تتوفر على أدنى الشروط اللازمة لاستقبال المرضى وتقديم العلاج لهم"، مضيفة أن %95 من المرضى الذين يتوفرون على تأمين صحي يتوجهون إلى العيادات والمصحات الخاصة، فيما %76 من الفقراء الذين يلجؤون إلى المستشفيات العمومية يتحملون كلفة التطبيب.

تذكر أيضًا الشبكة المغربية أن 200 طبيب، من مختلف التخصصات، قدموا استقالتهم في الخمس سنوات الفائتة، بسبب النقص المهول في الأدوية والتجهيزات الطبية والموارد البشرية بالمستشفيات العمومية، وتوجهوا نحو القطاع الخاص، محذرة من عودة مريبة لعدد من الأمراض التي تم القضاء عليها نهائيًا في التسعينيات، مثل الكوليرا والجذام، بعد ظهور حالات مسجلة.

حذرت الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة من عودة مريبة لعدد من الأمراض التي تم القضاء عليها نهائيًا في التسعينيات

ولا يقتصر الأمر على معطيات المنظمات الوطنية، التي تحذر من كارثة الصحة في المغرب، فمنظمة الصحة العالمية تضع المغرب في مراتب متأخرة حتى عربيًا من حيث إحصائيات عدد الأطباء مقارنة مع نسبة السكان، إذ لا يحصل كل ألفين مغربي سوى على طبيب واحد، فيما يتوفر لكل ألفين من مواطني تونس على ثلاثة أطباء، ولدى كل ألفين جزائري طبيبين، أما إسبانيا القريبة من المغرب فتملك ثمانية أطباء لكل ألفين إسباني.

المواطن المغربي يشتري الدواء بأضعاف نظيره الأوروبي

تعاني جل المستشفيات المغربية من الهشاشة التي تعتريها على مستوى التجهيزات الطبية والأطر الصحية، مما يحولها في غالب الأحيان إلى مراكز شكلية لمعالجة الأعراض السطحية البسيطة، فضلاً عن أنها غير كافية، إذ سبق لوزير الصحة المغربي، حسين الوردي، أن صرّح بوجود مركز صحي واحد فقط لكل 42 ألف مغربي، ويزيد الوضع سوءًا عندما يتعلق الأمر بالمناطق القروية، حيث قد تنعدم الخدمات الصحية تمامًا.

ويدرج تصنيف مؤسسة "hospitals" خمسة مستشفيات مغربية فقط ضمن المائة الأولى لأفضل المستشفيات في العالم العربي، حيث جاء مستشفى محمد الخامس بمراكش الأول مغربيًا، و 20 عربيًا، و 3133 عالميًا.

من جهتها، كشفت منظمة "هيومن راتيس ووتش" الدولية، في تقرير لها العام الماضي، عن معاناة 62 ألفًا من المغاربة المصابين بأمراض خطيرة، مثل السرطان، من آلام قابلة للتحييد وأعراض يمكن معالجتها من خلال "العلاج التلطيفي"، الذي تفتقر إليه المؤسسات الصحية بالمغرب، حيث يقول ديدريك لوهمان، مدير مساعد في قسم الصحة في هيومن رايتس ووتش، إن "هناك حاجة ماسة لأن توسع الحكومة المغربية خدمات الرعاية التلطيفية. في الوقت الراهن، يعاني آلاف المصابين بالسرطان وأمراض خطيرة أخرى في المغرب من أعراض قابلة للعلاج".

كما يشتري المغاربة الأدوية بثمن يفوق سعرها الدولي، فبحسب تقرير رسمي للجنة المالية والاقتصادية بمجلس النواب، الغرفة الأولى في برلمان المغرب، خلص إلى أن أثمان الدواء في المغرب "مرتفعة بشكل غير عادي"، حيث تفوق أسعار الأدوية بالمملكة ثمن مثيلاتها في تونس بـ%30 إلى %189، وهو بلد مغاربي ذو إمكانات اقتصادية واجتماعية محدودة.

وتكفي زيارة واحدة لإحدى المراكز الصحية بالبلاد، لإدراك مدى تردي الوضع الصحي بالمغرب، بعدما يُشاهد المرء جليًا نقص النظافة الواضح، ويصادف العديد من المرضى الذين يفترشون الأرض لعدم وجود أسرة، وبعد اصطدامه ببعض الظواهر غريبة عن مهنة الطب كخدمة سامية إنسانية، مثل الرشوة والمحسوبية والابتزاز والإهمال بالإضافة لسوء معاملة المريض.

يصطدم المواطن المغربي بظواهر غريبة تتنافى مع الجانب الإنساني للمهن الطبية من رشوة ومحسوبية وابتزاز وسوء معاملة للمريض

اقرأ/ي أيضًا: من المسؤول؟.. أسعار الأدوية بالمغرب تضاعف ثمنها الدولي

السياسات الحكومية فشلت في توفير الصحة للمواطن

يُعتبر الحق في الصحة، بما يشمل الحق في الحصول على الرعاية الصحية المقبولة، والميسورة التكلفة، وذات الجودة المناسبة في التوقيت المناسب، أحد حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا، خاصة وأن التطبيب مرتبط بدرجة قوية بالحق في الحياة، إذ أن عدم توفر العلاج يعني معاناة المريض وموته، في الوقت الذي كان بالإمكان إنقاذ حياته لو توفرت الخدمة الصحية الجيدة في الوقت المناسب، كما حدث مع الطفلة إيديا، ابنة منطقة تنغير.

لكن لا يبدو أن الوزارات الحكومية بالمغرب تهتم لحق المواطن المغربي في التطبب الجيد، كخدمة عمومية مجانية مقدسة من حق الجميع أن يتمتع بها بغض النظر الوضعية الاجتماعية، بل أكثر من ذلك أنها تتجه نحو خوصصة القطاع شيئًا فشيئًا، في ظل النزوح الجماعي عن المستشفيات العامة غير الأمينة نحو المصحات الخاصة المكلفة، وسبق لرئيس الحكومة المغربية السابق، عبد الإله بنكيران، أن قالها صراحة "حان الوقت لرفع الدولة يدها عن الصحة والتعليم".

ورغم إقرار الحكومة المغربية "نظام رميد" لفائدة الفئات الهشة، لكنه عرف تعثرات نتيجة غياب التجهيزات الطبية والأدوية في المستشفيات العمومية، فيما لم يتجاوز تخفيض وزارة الصحة أسعار الدواء، المقتصر على %60 فقط من الأدوية، دولارًا واحدًا، ليبقى بذلك ثمن الأدوية مرتفعاً بكثير عن سعرها الدولي.

ويرى مراقبون أن الدولة تفتقد لرؤية سياسية واضحة لقطاع الصحة، ويدعون إلى بلورة مشروع مجتمعي يجعل صحة المواطن أعلى من أي حسابات سياسية أو مالية، بهدف أن يتمتع جميع المغاربة بخدمات صحية جيدة، لكن لا يظهر أن هذا الأمر سيتحقق قريبًا ما دامت النخبة السياسية نفسها تهاجر إلى مستشفيات فرنسا عند المرض.

وتجدر الإشارة إلى ميزانية الصحة في المغرب لا تتعدى %6 من الناتج الإجمالي، متأخرًا عن نسبة %9 الموصى بها من طرف منظمة الصحة العالمية، في حين تخصص تونس %9.8 من ناتجها الإجمالي للإنفاق على الصحة العمومية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تفاقم كارثة نقص الدواء في مصر.. أي حلول؟

القطاع الصحي الحكومي في لبنان.. اختلاسات وفساد!