08-يوليو-2016

التلصّص في فيسبوك.. الفضول المدنّس(كريس جاكسون/Getty)

كان ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة تلك التي تقوم على التفاعل المباشر مثل "فيسبوك"، انقلابًا حقيقيًا في حياة الإنسان المعاصر، أسّس لانزياحات عميقة على مستوى التفكير والسلوك والقاموس، ولئن ظلت هذه البِنية الجديدة البديلة لوسائطَ أخرى تكاد تلقى مصير الحمام الزاجل، تسمى "عالمًا افتراضيًا"، إلا أنها تؤكد يوميًا قدرتها على أن تخطف من "الواقع" نبضه وفعاليته وخصوصياته، وتصبح هي الواقع.

الميزات التي يتيحها "فيسبوك"، مثل القدرة على أن يفتح أحدهم حسابًا، باسم مستعار وبصور مفبركة أو منقولة، سمحت لظاهرة التلصص بأن تنتعش

لم يتمّ الانتباه إلى سلطة "فيسبوك" وما شابهه، في الفضاء العربي المحكوم بمنطق العصا البوليسية، في بدايات ظهوره، فلطالما نُظر إليه على أنه ينتمي إلى الألعاب المسلية، إلا باندلاع ثورات الربيع العربي، حيث شبّت انتفاضات على أيدي الطبقات الدنيا، وسقطت أنظمة ومنظومات، وحدثت تحولات كرست واقعًا سياسيًا واجتماعيًا جديدًا، تُناقش طبيعة منطلقاته وثماره في سياق آخر.

إقرأ/ي أيضًا: معتقدات خاطئة عن فيسبوك

هنا علينا مراعاة الفارق العميق في بنيتي السلوك والتفكير وجرعتي الكبت والحرية، في المستويات كلها، بين الرقعتين العربية والغربية، ومنه الاختلاف في طريقة التعاطي مع هذه الوسائط الجديدة، بما ينتج عنها من سلوكات بعضها مستجد وبعضها هو امتداد للحياة اليومية.

أهمّ هذه السلوكات التي انتقلت من الواقع "المعيش" إلى "الواقع" الافتراضي، تلصص البعض على خصوصيات الآخرين ومنشوراتهم وصورهم، من غير أن يتركوا أثرًا، لأغراض مختلفة تتراوح بين الفضول، والنية الخبيثة في استعمالها ضد المعني الذي قد يكون خصمًا أو محسودًا أو منافسًا.

الميزات التي يتيحها "فيسبوك"، مثل القدرة على أن يفتح أحدُهم حسابًا، باسم مستعار وبصور مفبركة أو منقولة أو منتحلة، سمحت لظاهرة التلصص بأن تعشش فيه بالحرارة نفسها التي في الواقع، بكل ما تفرزه من مشاكل وقنابل ومضار، فيصبح امتلاك حساب نشيط في حكم وضع حية في الجيب.

بعضهم يسمي هذا النوع من الفيسبوكيين بـ"الثعابين النائمة"، ذلك أنهم يرسلون لك طلب صداقة، ثم يجعلونك تنساهم تمامًا، لأنهم لا يعلقون ولا يبدون إعجابًا ولا يضعون منشوراتٍ مهما كانت، حتى لا يُنتبه إلى وجودهم، وإن حدث وسألتهم عن هويتهم فإنهم يعطونك انطباعًا بأنهم مسالمون وخيّرون ولا علاقة لهم بالأذى.

بعضهم يدفعك من خلال عسل التعليقات وثراء الإعجابات، إلى أن تثق فيه، ثم يجرّك إلى دردشات خارج الكلفة والتحفظ، ليعرف ميولاتك المختلفة، ثم يستعملها ضدك، إما في نطاق ضيق يشمل العائلة والأصدقاء، عادةً ما يكون ذلك بين الأشخاص العاديين، وإما في نطاق واسع، إذا كنت شخصية مشهورة، وقد يتعلّق الأمر بانتقام شخصي أو تنفيس عن غيرة وحسد، أو بابتزاز معين.

في هذا الإطار، كشف لنا إعلامي عربي، رفض أن نذكر اسمه، أنه قبل صداقة إحداهن، أوهمته بأنها تحمل اسمًا وصورة حقيقيين، وتدرجت في اكتساب ثقته فيها، منها إبداء إعجابها بمقالاته، ومناقشتها لأفكاره، بل إنها راحت تقترح عليه مواضيع معينة للكتابة عنها، ثم عبّرت له عن إعجابها به كشخص، وحُلّت العقد ورُفعت الكلفة، ثم فجأة أرسلت له دردشاتهما مصورة، طالبة منه أن يكفّ عن مواجهة "الطرف الفلاني"، بل ويكتب عنه إشادة به وبمواقفه وبرامجه وتوجهاته، وإلا فإنه سيجد نفسه مفضوحًا، هو الزوج والأب والعم والخال.

لم يتم الانتباه إلى سلطة "فيسبوك" وما شابهه، في الفضاء العربي المحكوم بمنطق العصا البوليسية، إلا باندلاع ثورات الربيع العربي

إقرأ/ي أيضًا: فيسبوك.. الدولة الأكثر خطرًا في عين إسرائيل

لا تهمنا نتيجة هذا الابتزاز، وإلا وقعنا في منطق التلصص نفسه، بقدر ما يهمنا أن كثيرًا من هؤلاء الضحايا، إما أنهم يقعون في الشباك، أو يغلقون حساباتهم حتى لا تصلهم أصداء القنبلة، وإما يراهنون على الحظ، فقد تمر بسلام، أو على الزمن الكفيل بالنسيان.

نوع آخر من التلصص الفيسبوكي، يُعد أقل ضررًا وأكثر "نبلاً"، يتعلق بمتابعة دقيقة ويومية، لما ينشره الآخر، عادة ما يكون ذلك بين الكتاب والإعلاميين والفنانين والمثقفين المتنافسين، لمعرفة جديده، قصد محاربته أو تقليده، أو للرد عليه في حالة ما إذا تطاول عليه أو ذكره بشكل من أشكال السوء. يقول الناشط المسرحي فتح النور بن إبراهيم: "هذا النوع يكتم أنفاسه في ما يتعلق بمنشوراتك كلها، بما في ذلك التي تقتضي تعزية أو تهنئة، لكنه يظهر فجأة بعبارات لاهبة، إذا ذكرت اسمه أو اسم أحد ممن يعنونه، لتكتشف حينها أنه ضمن قائمتك".

في السياق، يعترف إسماعيل مهنانة، أستاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة قسنطينة، أنه حاول توظيف نظريات التحليل النفسي والأنثربولوجيا في فهم عقيدة التلصص التي "أصبحت رياضة وطنية منذ اكتشاف الفيسبوك"، لكنه فشل في ذلك. يقول: "لطالما صُدمتُ في الكثير من الأصدقاء والزملاء الذين كنتُ أحسبهم أسوياء في الواقع، ثم اكتشفت أنهم يجدون متعة خالصة في متابعة كل صغيرة وكبيرة في ما يكتبه الأصدقاء دون إعلان حضورهم ولو بإعجاب يتيم".

مهنانة يعطي احتمالات لفهم الظاهرة بالقول: "يبدو أن التلصص يعطي شعورًا غامضًا بالأمان، خاصة لهؤلاء الجبناء الذين يتمنون مواجهة المجتمع بحقيقته المخادعة والإكراهية دون أن يخسروا شيئًا، فيفضّلون أكل الشّوك بأفواه آخرين أكثر تهوّرًا". ثم يعطي تعريفًا للمتلصصين: "هم ذلك النّوع الذي ينتظر نهاية كل حرب لكي يعلن ولاءه للمنتصر واستعداده لتدوين ملحمته، هؤلاء المنتظرون هم ورثة العالم، وهم من كان يجني الثمار بعد كل ثورة، لهذا كانت الكنيسة في القرون الوسطى تفقأ عين المتلصص، ويجب إحياء هذا التقليد بشكل ما".

اقرأ/ي أيضًا:

فيسبوك.. جحيم السياسيين المغاربة

شاب تونسي يكتشف ثغرات في فيسبوك ويكافأ