24-يونيو-2016

هم أشبه بعرائس الماريونيت يحركها نظام السيد "عبده هيصة الكبير"(محمد الشاهد/أ.ف.ب)

"ربنا خلق الدنيا هيصة، وخلق فيها بني آدمين هيصة، كل واحد في هيصة بيعمل هيصة، عشان يلحق الهيصة ويا يلحق يا ما يلحقش، وكلهم كحيانين، بس كل كحيان بطريقته..". بهذه الكلمات بدأ الكاتب خيري شلبي روايته "صالح هيصة"، والتي كان يتحدث فيها عن فترة ما بعد "ثورة يوليو" وما تبعها من أحداث، ثم سلط من خلالها الضوء على طبقة معينة من الشعب، وأخذ يرصد ردود أفعالهم تجاه الأحداث، التي كانت تُستجد على الساحة من حين لآخر.

"هيصة" الصحفيين في مصر اليوم في حدود ما ترسمه الدولة لهم فصاروا أشبه بعرائس "الماريونيت"، يحركها  نظام السيد "عبده هيصة الكبير"

فكانت شخصيات الرواية متنوعة ما بين الطالب والصحفي والكاتب والممثل والسيناريست لكنه همش كل هؤلاء وكان محور الرواية شخصية "صالح هيصة"، هذا الرجل الذي اعتاد أن يقوم بعمل "هيصة" حتى صارت "الهيصة" جزءًا لا يتجزأ منه، بل صارت صفة لازمته لا ينفصل كل منهما عن الآخر، فصالح هو الهيصة والهيصة هي صالح.

والسؤال الذي يدور في ذهن القارئ الآن، ما الداعي لذكر شخصية "صالح هيصة" في هذا المقال؟، وأجيب: "تمهل فى إصدار حكمك، في البداية لابد أن نعي جيداً أن كتاب القرن الماضي لم يكتبوا كلاماً لرصد الواقع الذي عاشوا فيه فقط، بل كان لديهم بعد النظر، فكتاباتهم صارت إلى حد كبير تطابق العصر الحالي، حتى وإن لم يقصدوا ذلك عمداً، فكتبهم هي التي فرضت عليهم وعلينا ذلك".

فشخصية "صالح هيصة" لا تزال موجودة، لكنها في العصر الحالي، لم تعد مقتصرة على أفراد فقط، بل أصبحنا نرى "صالح هيصة" في كل ما يحيط بنا من مؤسسات ومن نظم حاكمة، فصارت "الهيصة" هي المبدأ وهي العرف والقانون. لن أستطرد في تفاصيل أكثر من ذلك، لكن دعونا نقرب شخصية "صالح هيصة" من الواقع الحالي أكثر، وبالأخص نسقطها على واقع الصحافة المصرية والعربية اليوم.

اقرأ/ي أيضًا: "لا أرى لا أسمع لا أتكلم".. خطة الإعلام المصري

الصحفيون الآن يرفعون شعار "هيّص تُعرف"، لكن "هيصة" الصحفيين الآن من نوع آخر، تختلف تمام الاختلاف عن هيصة "صالح هيصة"، هي تنطلق من حلق مكتوم الصوت، مرتعش القلم، ولسان يسبح بحمد النظام ليل نهار، هم يقومون بـ"هيصة"، لكنها في الحدود التي رسمتها الدولة، فصاروا أشبه بعرائس "الماريونيت"، يحركها  نظام السيد "عبده هيصة الكبير".

وفي الفترة الأخيرة، حاولت الدولة أن تجمل "الهيصة" أكثر، فطلبت من ابنها البار "مجدي الجلاد" ، أن يؤسس صرحاً كبيراً للـ"هيصة"، يقوم فيه بتجميع مؤسسات "الهيصة" الصغيرة مترامية الأطراف، وتجعلهم تحت مظلة واحدة، في حمى السيد "عبده هيصة الكبير".

النظام لا يعترف بهم ولا يعترف بصحافتهم، لأنه ليس بحاجة إلى إخلاص السيد "مجدي الجلاد" وأعوانه، لكن في الفترة الأخيرة أصبح نظام السيد "عبده هيصة الكبير" في أمس الحاجة إلى "هيصة" الجلاد. أصبح في حاجة إلى مجموعة كبيرة من الهاتفين، كي يصنعوا من السيد "عبده هيصة الكبير" أسطورة جديدة، لأن دماغ سيادته أصبحت مليئة بـ"الهيصة"، وهو في حاجة إلى رجال تصنع "الهيصة" حتى لو كلفه ذلك مال قارون، صحف تنطق باسمه في كل البلاد، مؤسسات إعلامية كبيرة، إذاعات، تلفزيونات، وهنا سينشغل أمثال الجلاد بتسمين زعامة السيد الكبير، تحت مسمى الثورة، والولاء للوطن، ومن لم يعترف بهم صار مرتداً وخارجاً عن دين "الهيصة".

دعونا نتخيل ما يحدث وراء الكواليس حتّى يُخرجَ لنا مقالاً عن أكل "العيش"، بذلَ فيه صاحبُه جهداً مضنياً كي يخرجَ بهذا الجمالِ، معبراً عن أناس بالفعلِ كل علاقتهم بالطعام هي "العيش الحاف"، في الوقت الذي يتقاضى فيه كاتب المقال مبالغ خيالية كي يشترى "العيش" والبقلاوة و"الجاتوه"، فكما قالوا "إن أسلوب الكاتب هو شخصيته"، ومن المحال أن يقنعنا فاسق بضرورة الطهارة، أو كاتب يتعلق بركاب المستبدين وينتفع منهم ثم يحدثنا عن الديمقراطية.

من يقرأ الصحف لا يعرفُ إلا القليل عمّا يجرى وراء الكواليس، فكل ما نعرفه عنها هو هذا المظهر الخارجي الذي يبدو لنا على مسرح الصحيفة وقد حوى الكثير من المقالات "المُمكيجة"، فتخرج كلماتها من بينِ الأناملِ المأجورة لا من بين ضلوعِ الروح وأعماق القلوب ، فكل ما ترونه ليسَ إلا مقالات مدفوعة الثمن إما لسدِّ خانة وملء فراغ أو لحاجة في نفس يعقوب.

صار هدف الصحيفة الأول هو البيع والمكسب أما كل ما تطرحه من أفكار فهي ليست إلا وسيلة لبيعِ طياتها

اقرأ/ي أيضًا: الإعلام المصري.. خارطة مشبوهة

فهدف الصحيفة الأول هو البيع والمكسب أما كل ما تطرحه من أفكار فهي ليست إلا وسيلة لبيعِ الصحيفة، فإذا كانت الوطنية مربحة فلتحيا الوطنية، وإذا كان الضحك والفكاهة مربحًا فلتسقط الوطنية ولتحيا "الخلاعة"، وإذا كانت محاربة الرذائل أشد ربحاً فلتحيا الفضيلة، وإذا كانت الفضائحُ مربحة فلتذهب الفضيلة إلى حيثُ ألقيت، وإذا كانت "الهيصة" مربحةً أيضاً فلتحيا "الهيصة" وليحيا حاميها وراعيها والقائمون عليها.

إن الوطنية والحماسة بضاعة رابحة، والإعلانات كذلك تدر ذهبًا، فماذا يضيرُ الصحيفة أن  تطل علينا بوجهين: وجه يلتهبُ حماسةً ووجه يستجدي النقود، ماذا يضيرُها أن تطلبَ من الناس أكلَ "العيش" الحاف" في الوقت الذي يأكلُ فيه كتّابها "الجاتوه"، ما دامَ الأمر مكسبًا فأهلاً بالوجه الذي يلتهبُ حماسًا والوجه الذي يستجلبُ النقود.

تُرى ما الذي يدفعُ الصحفي إلى أن يكتب عن المعاناة التي تلقاها الطبقات الكادحة ونقود الحكومة لا تزالُ تملأ جيبه، علاوة على المكافآت التي لا ينضبُ معينُها، وكيف تنضب والعلاوات تتدفقُ بلا رقيب ولا حساب، لينطلق بعدها في كتابة مقال شديد اللهجة يعلنُ فيه حملةً شعواء على الحكومة ويهاجمها هجوماً منكراً، لا لأنه يكرهها، ولكن لأن صاحب الجريدة أخبره بأن هذه المقالات ترضي الجماهير وتروج للجريدة، فاندفع يكيلُ التهم والنقد للحكومة، وهو إنسان طويل اللسان، لا يجيد أكثر من الهجاء إلا المديح الذي دُفع ثمنه سلفًا.

إن الكاتب منهم أصبح لا يكتب حينَ تنضج في رأسه فكرة، إنه يكتب لأن موعد تسليم المقال قد حان وهو لابد وأن يكتب شيءاً، والجريدة هي الأخرى لا يهمها ما يكتب فهي تتعامل معه أيضاً بأسلوب "البيع والشراء" و"ما بين البائع والشاري يفتح الله". الصحافة لا تحتاج إلى المواضيع التي تأتي بأعلى عدد قراءات قدر حاجتها إلى صحفيين يقدرون المهنة ويعرفون شرف الكلمة وإلا سيتحول الوضع من سيء إلى أسوأ، كما تحتاج عقليات الصحفيين الحاليين أن تتحول من عقليات تلهث وراء أي خبر حتى وإن لم يكن له قيمة إلى عقليات تحترم القارئ.

الصحافة تحتاج كما قال محمد التابعي إلى أن "لا تسكت على الحال المايل وأن تقول ما تعتقد أنه الحق حتى وإن خالف ذلك الرأى العام، وأن توجه هي الرأى العام وليس أن تتملقه وتكتب ما يسره أو يرضيه"، فهل هناك خير لهذا البلد أكثر من أن يكون أهل الفكر وأصحاب الكلمة فيها مخلصين وأحرار؟.

اقرأ/ي أيضًا:

موسم ترويع الإعلام في مصر

مصر..إعلام برتبة شريك في الفساد