30-نوفمبر-2015

الإمام جمال الدين الأفغاني (1838-1897)

عندما قُتِل عمر بن الخطاب خليفة المسلمين الثاني، قام ولده عبد الله بن عمر بقتل ثلاثة رجال كانوا في الموقعة، ظنًا منه أن لهم ضلعًا في مقتل الخليفة. وما أن استلم عثمان بن عفان الخلافة حتى وجد نفسه أمام مشكلةٍ عصية على الحل، فالقتلى هم من أشراف القوم وشرع الله يجب أن يسري على فاطمة بنت النبي، ولا بد من القصاص من عبد الله بن عمر بقتله، فالقاتل يقتل، ولكن إن تم قتل عبد الله فستحدث فتنة من قبل الموالين للخليفة عمر، وخاصةً أن دمه ما زال ساخنًا، فكيف بقتل ابنه من بعده؟

العلمانية لم تطرح فكرة التخلي عن قدسية الدين للتمسك بقدسية الدولة

إن قبل عثمان بن عفان بإلغاء القصاص فسيؤلب عليه أشراف القوم، فما كان منه إلا أن استدعى أحد دهاة العرب الأربع عمرو بن العاص طالبًا استشارته، فقال عمرو "يا أمير المؤمنين هل قُتل هؤلاء الرجال في ولاية الخليفة عمر بن الخطاب؟"، فقال ابن عفان "لا، لأن عمرًا كان قد مات في حينها". فقال ابن العاص "وهل قُتل هؤلاء الرجال في ولايتك؟"، فقال ابن عفان "لا، فلم أكن قد نلتُ البيعة بعد، فقال ابن العاص: إذن فأمرهم ليس عندك إنما عند الله، ومن أشد من الله قصاصًا؟!

إن قبول عثمان بن عفان بهذا الحل لما فيه خير المسلمين ولدرء الفتنة التي قد تحدث، كان نتيجةً لفصله النص القرآني عن السياسة، ويمكننا أن نطلق على هذا الموقف أنه موقف علماني من قبل خليفة المسلمين، وهنا استطاع الخليفة أن يفصل بين عالمين (علماني من جذر عالم وليس علم) العالم الأخروي والعالم الدنيوي.

كثرٌ من يعتقدون أن العلمانية هي الإلحاد، علمًا أن الإلحاد جاء مع الدين وليس مع العلمانية، ومن هنا فنحن لا يمكننا أن نطلق صفة علماني على شخص لأن العلمانية هي صفة الدولة، وقد يكون المؤمن بالدولة العلمانية شخصًا متدينًا أو يساريًا أو تقدميًا أو حتى فاشيًا. وإذا أردنا أن نحلل هذه النظرة الدينية المتصلبة تجاه العلمانية فيمكننا العودة إلى مرحلة عصر النهضة العربية، حيث استطاع محمد عبده إيجاد مصطلح يُعد الأنجع إلى الآن من حيث ترجمته لمعنى secularism ألا وهو الدهروية في حينها، وفي أحد مقالات جمال الدين الأفغاني يقول عن الدهروية ما يلي: "هؤلاء الدهريون ليسوا كالدهريين في أوروبا فإن من ترك الدين في أوروبا يبقى لديه حب الوطن، ويفدي مصلحة الوطن بروحه، أما الدهريون العرب فإنهم كما يدعون الناس إلى نبذ الدين يدعونهم أيضًا إلى أن تهون عليهم مصالح أوطانهم ويسهلون على النفوس تحكم الأجنبي فيها، ويجهدون من أجل محو الآثار الدينية والقومية. إلى أن يختم بالقول: "هكذا يمتاز دهريوا الشرق عن الغرب بالدناءة والخسة بعد الكفر والزندقة".

خُلقت المشكلة تجاه العلمانية في الوطن العربي منذ ذلك الحين، وكأي قراءة للنظريات لا يمكننا عزل كلام جمال الدين الأفغاني عن سياقه التاريخي، ألا وهو عصر سيطرة الاستعمار بأشكاله القديمة والشعور بالتبعية والضعف تجاهه، والشك في كل ما يأتي من الغرب. 

وعودةً إلى ذات الاقتباس سنرى جمال الدين الأفغاني يتحدث عن تقديس الدولة لدى الغرب الذي تخلى عن الدين، وفي هذا منافاة لجوهر العلمانية الحقيقي، فالعلمانية لم تطرح فكرة التخلي عن قدسية الدين للتمسك بقدسية الدولة، وفي أواخر عهد "غاليليو- عصر التنوير الأوروبي" لم ينشأ أي خلاف بين الدين والعلمانية، ولكن مع بداية ظهور القوميات سارت الرغبة نحو إخضاع الدين للدولة ونشبت الحرب بين قدسية الدولة وقدسية الدين، وأصبح هناك رموز يتم تقديسها لتحل محل الدين، لا زالت إلى الآن سارية في بعض دولنا العربية "الجندي المجهول، الرئيس المُفدى، تقديس الشهادة فداءً للوطن والقائد.. إلخ". 

فرض الدين بالقوة سيجعل الناس تتحول إلى النفاق، الذي يُعد من الكبائر التي تستحق أشد العقوبات في جميع الديانات

وفي ذلك الحين ظهرت سرديات كبرى تتحدث عن دين الدولة وكأنه العلمانية التي نادى بها الكثير من الفلاسفة، وللأسف تم تلقفها بهذا الشكل وسفك الكثير من الدماء في سبيلها وبقيت أثارها خالدة حتى الآن، في حينها استطاع عالم الاجتماع جون لوك أن يحُل هذا الإشكال من خلال إعادة تنظيره لمرحلة سابقة "مرحلة غاليليو"، عندما قال إن ضمان ممارسة الشعائر الدينية للناس يجب أن تكفله الدولة كحق ليبرالي، فعندما تسمح الدولة لليهودي بارتداء القبعة، والمسيحي بارتداء الصليب، فهذا حق ليبرالي تكفله الدولة، وفي ذات الوقت لا يحق للكنسية التدخل في حقوق الناس المدنية وليس لها أن تفرض أي شيء على الأفراد، وجميعنا يعلم أن فرض الدين بالقوة على الناس سيجعل الناس تتحول إلى النفاق، الذي يُعد من الكبائر التي تستحق أشد العقوبات في جميع الديانات.

قد يكون المؤمن بالدولة العلمانية شخصًا متدينًا أو يساريًا أو تقدميًا أو حتى فاشيًا

نظرة سريعة على كافة الثورات العربية سنكتشف أن جميعها بدأت بشكل علماني بحت، وجميعها تم إعادتها إلى الخانات الدينية الضيقة والمتشددة، فلا أحد في العالم المتحضر المهتم بإظهار ديمقراطية إسرائيل، يتمنى أن تتحول هذه الجغرافية إلى جغرافية علمانية، بالمعنى المرن للكلمة، والتي تكفل حقوق الأفراد جميعًا أمام قانون الدولة.

ولمن يريد أن يدقق سيجد أن الثورة السورية كانت أنجع مثال لإمكانية سير الدولة العلمانية مع الدين من دون حدوث أي تعارض، فالشعب الذي طالب بالحرية، أي ضمان حقه الشخصي في الحياة، ومن ثم طالب بإسقاط النظام، أي ضمان حقه في التعبير السياسي، ومن ثم نادى بالدولة المدنية، أي حقه في الضمان الاجتماعي. هو نفسه الشعب الذي قال "الله أكبر"، و"يا الله مالنا غيرك يا الله"، و"ع الجنة رايحين شهداء بالملايين"... هذا الشعب بعفويته استطاع أن يُظهر مدى الانسجام في هذه الشعارات من دون الحاجة إلى مثقفيه، الذين انهزموا منذ بداية الثورة ثم ما لبثوا يتحدثون عن تناقضاتها، التي لم تؤرق طفلًا صغيرًا أضاع فردة حذائه في إحدى المظاهرات. 
 
اقرأ/ي أيضًا:

اليسار كمعكوس للإسلام السياسي

الذبح على الشريعة العلمانية