29-نوفمبر-2018

كانت حركة السترات الصفراء بمثابة احتجاج الهامش على المركز (تويتر)

يتوقف إريك زيمور، وهو حقًا ليس بالكاتب الذي يؤخذ عادة على محمل الجد، لدى الأزمة المستعصية التي تعيشها فرنسا. وبشكل تقارب مأساويته إحدى تراجيديات إسخيليوس الشهيرة، يعلن له العنوان "انتحار فرنسا". الشيء الذي يدفع للبحث أكثر هو أي فرنسا تكلَّم عنها زيمور، وأي انتحار هذا؟

تحت رمزية السترة الصفراء "Le Gilet Jaune"، والمعدَّة أصلًا لتنبيه السائقين إلى من يلبسها تحت ظلمة الليل، خرج المحتجون من كل الضواحي الفرنسية، وكأنهم يقولون "هل من منتبه؟"

يتوجس زيمور، ثم ينهمك منذ صفحاته الأولى في المتن المذكور، وبنفس المأساوية في الوصف: "فرنسا هي الرجل المريض لأوروبا. الاقتصاديون يقيمون فقدان التنافسية، المحللون يتحدثون عن سقوطها. الدبلوماسيون والجنود يشتكون في صمت حول تراجعها الاستراتيجي. الأطباء النفسيون قلقون من ارتفاع التشاؤم. خبراء استطلاعات الرأي يقيسون معدلات اليأس. الشباب الفرنسي يهاجر. الأجانب الأكثر تشبعًا بالفرنكفونية قلقون من تدهور مستوى التعليم فيها".

كل هذه الأوصاف كانت إلى حدود الشهر الماضي مجهولة. إلى أن عرَّت انتفاضة السترات الصفراء، بما هي مفاجئة وقويَّة، سوءة البلاد.

تحت رمزية السترة الصفراء "Le Gilet Jaune"، والمعدَّة أصلًا لتنبيه السائقين إلى من يلبسها تحت ظلمة الليل، خرج المحتجون من كل الضواحي، وكأنهم يقولون: "ها نحن نلبسها! هل من منتبه؟". معلنين بذلك أن عصر الصمت انتهى، وفرنسا التي تحمل على ألوان رايتها ثالوث "المساواة، الإخاء والحرية"، لم تعد الآن سوى مطحنة عظمى، تدير رحاها حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون، وتسحق المهمشين تحت طموحاتها المالية والسياسية والاجتماعية.

اقرأ/ي أيضًا: فرنسا..موجة احتجاجات جديدة ضد قانون العمل

جينيالوجيا الأحداث

يعود المشهد إلى السنوات التي تعهدت فيها فرنسا، وهي تحتضن قمة المناخ العالمية Cop21، أن تنتهج سياسات صديقة للبيئة، وتحرر استهلاكها الطَّاقي من المصادر الأحفورية. كان ذلك خلال عهدة الحكومة اليسارية لهولاند، والتي انتهت مخلفة إيمانويل ماكرون في الحكم، وهو الذي أخذ على عاتقه، وبحس تكنوقراطي، تطبيق تعهدات فرنسا في قضية الانتقال الإيكولوجي، خاصة أنه المتورط الأبرز في فضيحة تمليك الشركة الأمريكية جنرال موتورز مفاتيح الطاقة النووية الفرنسية، لتمسي كهرباء فرنسا سلعة أمريكية في عهد توزيره على الاقتصاد الفرنسي.

يتمثل جوهر سياسات تطبيق هذا الانتقال، في الفرض المتزايد للضرائب على المحروقات، وبالأخص على المازوت الأكثر استهلاكًا بالبلاد، والذي عرف أوجه في النصف الأخير لسنة 2018، حيث مثلت 60% من إجمالي سعر البيع في المحطات.

أمام هذه القرارات القاسية، ناشدت الجمعية الوطنية لحقوق المستهلك الفرنسية رئيس الدولة في مقال على موقعها الرسمي، عنونته بـ "سيدي الرئيس لا ترفعوا الضرائب على المحروقات"، بالعدول عن هذا القرار، مبينة بالأرقام مدى أثر العبء الضريبي على القدرة الشرائية للطبقات الوسطى والفقيرة الفرنسية، التي وكما هو معروف عند أهل المحاسبة، تتحمل دفع ثمنها كاملًا.

جاءت سياسة العولمة الاقتصادية، التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة على حكم فرنسا من ثلاثين عامًا، دائمًا في خدمة نخبة المتروبولات الكبرى في السوق العالمي

فجرت هذه الزيادات لدى عامة الشعب غضبًا عارمًا ضد حكومة ماكرون، وفتحت على هذا الأخير نيرانًا لم يكن يضرب لها حسابًا. وكان التحرك عفويًا، والمطالبات في الاحتجاج كذلك بنفس العفوية. هكذا لبس الفرنسيون سترات الإنذار الصفراء، وخرجوا في مسيرات لإنهاء ما اعتبروه مهزلة العيش في فرنسا.

انتفاضة بلون أصفر

من احتجاجات السترات السفراء في جادة الشانزليزيه (أ.ف.ب)

منذ أول أيامها، استطاعت حركة السترات الصفراء تعبئة كم جماهيري كبير، خالقة زخمًا بأشكالها النضالية المتعددة. فمن تعطيل حركة الطرقات، إلى محاصرة مصافي البترول، إلى التظاهر عبر كبريات مدن البلاد، محاولة إيصال صوتها إلى من يهمه الأمر في شرفات قصر الإليزيه ودهاليزه.

صحيح أن المطالب المرفوعة من الحركة تأخذ لها موضوعًا أساسيًّا؛ هو زيادات أسعار المحروقات، إلا أن ذات الموضوع صار مسلكًا لمطالب أعمق، تعبر بعمق عن غضب الشعب، وكذلك عن عمق عدم التكافؤ الاجتماعي الذي يسم معيشته. كاشفة الستر عن الفوارق الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية التي أنتجتها سياسات الجمهورية الخامسة على طول الثلاثين عام الأخيرة، والتي تميز بشكل حاسم بين طبقتين من الفرنسيين، هما سكان المتروبولات الضخمة و الباذخة، وسكان الهامش المنسي والمهمل.

هذه التمايزات، ولا شيء غيرها، لها السيادة على تحركات السترات الصفراء، سواء في الشارع، أو العالم الافتراضي، وبها تعلل كل مشاعر السخط والدعوة إلى إقالة ماكرون وحكومته.

تعطي وثيقة العارضة الاحتجاجية للحركة فكرة دقيقة عن التصور الذي يقوم عليه الوعي النضالي الشعبي في هذه اللحظة التاريخية. حيث تلقي الضوء على  هذه الزيادات كونها ليست إلا إجهازًا على الطبقة الفقيرة خدمة لمصالح رأسمال العالمي، هادفة إلى دفع المواطنين إلى تغيير عاداتهم الاستهلاكية، والمقصود هنا تغيير سياراتهم المازوت إلى البنزين وتحريك عجلة تجارة السيارات.

يضاف إلى ذلك ارتفاع الطلب العالمي على البترول وبالتالي ارتفاع سعره في السوق العالمية، مما يمكن أن يؤدي إلى زيادة سعره على المستهلك، وهذا ما يبطل وعود الحكومة بانخفاضه مع مرور الوقت. يبطل هذا أيضًا في نظرهم كذلك التبرير البيئي، كون أن السيارات الإيكولوجية لا تمثل إلى 1.5% من سوق السيارات في البلد، وثمنها لا يوافق القدرة الشرائية، والحكومة لا تسعى إلى تذليل ثمنها الباهظ. كما أنه ليس من الضروري أن تتحمل الطبقات الفقيرة الرهانات الطاقية للدولة، وأرباب السوق، بهذا الشكل المفجع، في حين أن هناك سبلًا أخرى لرفع ذات التحدي خارج آليات السحق الطبقي الممارسة.

مواجهات في قلب باريس

خلقت مظاهرات السترات الصفراء الحدث في باريس ذات عشية سبت، 17 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، حين خرجت جحافل المحتجين فملأت طول شارع الشانزليزيه، متقدمة نحو القصر الجمهوري، منادية برحيل ماكرون، حيث بلغ عددها 8000 متظاهر، بينما كان عدد رجال الشرطة يقلهم بقليل.

اقرأ/ي أيضًا: الثورات العربية وثقافة اللاعنف.. حدود الرفض

اندلع العنف، وبدأت صدامات بين رجال الأمن CRS والمحتجين، في مواجهات دامية استعمل فيها الطوب والعصي والقنابل المسيلة للدموع، وخلفت جرحى من كلا الجانبين.

من احتجاجات يوم السبت 24 تشرين الثاني/نوفمبر في باريس (Chesnot/Getty Images)

علقت ناتاشا بولوني، الصحفية الفرنسية المشهورة، على الأمر قائلة: "كان من المفزع مشاهدة رجال الشرطة يطاردون المحتجين من أماكن دون تأمينها، ليعود إليها هؤلاء من الممرات المجانبة للشارع". مبينة أن هذا ما خلف مزيدًا من العنف والصدامات، التي دامت طول اليوم.

ثم تعود ذات المتحدثة لوصف المسيرات، ما قبل تدخل الشرطة: "كانوا يستعرضون عبر الشوارع شكلًا رائعًا من الكرامة"، بينما تضع ذلك دليلًا على كون عمليات التحطيم والإجهاز على الممتلكات التي عرفها ذلك اليوم، ناتجة عن اختراق المظاهرات من طرف أفراد وصفتهم بالمخربين، ولا تتحمل الحركة السلمية وزر هذه الأحداث.

كما تنبأ جان كلود ميشيه، المفكر اليساري الفرنسي، في مقال له بتاريخ 21 تشرين الثاني/نوفمبر، أي قبل اليوم الأسود، أن حكومة ماكرون لن تتردد في حشر الفوضويين اليمينيين واليساريين داخل الحركة، إذا أخذت حجمًا أكبر، لتجريمها أو جرها إلى سياقات انتحارية والقضاء عليها.

كان تنبؤ ميشيه الذي يميل أكثر إلى سرديات المؤامرة، تنظيرًا يصعب أخذه على محمل الجد، مع ذلك لا يمكن نفي كون غياب الوازع الأيديولوجي عند الحركة، قد يكون مسؤولًا عن منزلقات انتحارية، ستفيد نقيضها أكثر من أن تحقق ما تطلبه.

ثورة الهامش على المركز

تعبر ثورة السترات الصفراء عن عمق هشاشة الوضع في فرنسا الهامش، أي مجمل فرنسا خارج المتروبولات الكبرى، وهو وضع يؤسس لصيغة جديدة من التناقض الطبقي القائم بالبلاد، والذي يقسمها إلى فئتين متصارعتين، تكلل الصراع بينهما في الحركة الأخيرة.

اقرأ/ي أيضًا: اليمين الفرنسي ينادي فيون من بعيد: فخامة الرئيس

يصف كريستوف جيليي، السوسيولوجي والجغرافي الفرنسي، حالة الهوامش الحضرية في بلاده، على أنها المجال الجغرافي الذي تندر فيه فرص الشغل، والذي يعرف النسبة الأكبر من البطالة، وكذا المحروم من اهتمام الحكومة رغم أنه يشكل نسبة 60% من السكان، الذين يشكلون غالبية الكتلة الناخبة في البلاد.

فرنسا الهامشية ليست فقط سكان القرى النائية، بل كذلك سكان ضواحي المراكز الحضارية الكبيرة، الذي يشكلون طبقة اجتماعية جديدة، تجمع الفلاحين والعمال، العاطلين والمياومين، الشباب والمتقاعدين، نتاج السياسات التي انتهجتها الدولة الفرنسية، والتي ركزت اهتمامها التنموي على المراكز الكبرى، مخلفة فئات محرومة على الهامش.

 استطاعت حركة السترات الصفراء منذ أول أيامها تعبئة كم جماهيري كبير، خالقة زخمًا بأشكالها النضالية المتعددة

يضيف جيليي: "إن سياسة العولمة الاقتصادية، والتي انتهجتها الحكومات المتعاقبة على حكم فرنسا من ثلاثين عامًا، كانت دائمًا في خدمة نخبة المتروبولات الكبرى، هؤلاء الذين هم في معزل عن الحرمان الاقتصادي والبطالة، لكن البلد لا يتلخص فيهم، بل هم أقلية في مقابل الفئة الثانية".

كما عرفت حركة السترات الصفراء تواجدًا كبيرًا للنساء في صفوفها، وهو ما يحلله جبيلي، من خلال تبيان كونهم الأقل حظًا من الفئة، حيث يتلقون أجورًا زهيدة على الوظائف التي يشتغلونها، وفي نفس الوقت يحملن على عاتقهن مسؤوليات اقتصادية أكبر من أجورهن، وهو ما يعلل تواجدهن في الصفوف الأولى لهذا الغضب الشعبي.

كما يعلل هذا التناقض الجديد عفوية الحراك، وحياده في وجه التطاحن السياسي بين تلاوين الأحزاب والتيارات الفرنسية، بل وعداؤه لها، كونها المسؤول الأساسي عن وضعيته المعيشية.

مخطوطات على الجدار في جادة الشانزليزيه تطالب ماكرون بالاستقالة (فرانسوا جيلوت/أ.ف.ب)

ابتهاج من قلب اليوم الأسود

"يقول فيكتور هيغو: حين تعطس باريس يصاب العالم بالزكام". هكذا ينطق الصوت المبتهج لصلاح الدين مرزوقي، السياسي الجزائري الفرنسي، في حديثه مع "ألترا صوت". ومن قلب باريس يسترسل: "هذا الصوت الأصفر الذي نراه اليوم في شارع الشانزليزيه، هو غضب عجنته الظروف، من سنة 1968 إلى يومنا هذا، والتطاحن السياسي بفرنسا والعالم. وباريس عودتنا أن تمنحنا كل جميل، حتى الخراب من باريس جميل".

يتابع مرزوقي: "لباريس اليوم غلاف من العالم جديد، هم المهاجرون، والصراعات الأيديولوجية التي تعرفها اليوم، ومزيجها الداخلي الرائع وكل ما أنتجه من أحداث، هو ما أنضج هذا الصوت الاحتجاجي، وباريس نتيجته. وهذا الصوت/الظاهرة، الذي جمع كل تلاوين المجتمع الفرنسي، لا يطالب فقط بتحسين المستوى المعيشي، بل هو في رمزيته صرخة من باريس تقول للعالم: توقفوا عن هذا الهراء!".

وبخصوص تواجده كفرنسي من أصول عربية في الاحتجاج، يعطف قائلًا: "لهذا كله نحن، عرب فرنسا، نساند هذا الصوت الأصفر، الذي يعيد العالم إلى الإنسان، ونساند الشارع الفرنسي الذي عودنا حشر نفسه إلى جانب السلام الإنساني، وفي صناعة التاريخ".

إذًا، تقف قطاعات واسعة ممن همشتهم السياسات الاقتصادية المتراكمة للطبقة السياسية المتروبولية الفرنسية اليوم، على طول شوارع الجمهورية وعرضها، مدافعة عن المعيشي/المطلبي. لكن التفريق الأهم الذي قدمته انتفاضة "السترات الصفراء" أن الفاعل السياسي المتورط في الأزمة وصنعها لا يمكن له أن يكون حجر زاوية في حلها. ما ينذر بدوره بإمكانية التوسع في هذا الحراك نحو بلورة مطالب تعليمية وصحية وحقوقية متعددة التلاوين قد تقود، خاصة بعد ظلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة وما تشهده القارة الأوروبية من تحركات عابرة للحدود القطرية ضد سياسات بروكسل التي يعد ماكرون ابنها الوفي، إلى تكثيف كتلة جماهيرية تتبنى خطابًا سياسيًا من الممكن أن يخترق المشهد السياسي الكلاسيكي الفرنسي، استرشادًا بمثال انشقاق بونوا هامون "بلال" عن الاشتراكيين نحو بناء حركة جماهيرية تعبر عن الهامش العرقي والاقتصادي خارج مصفوفة مدرسة الطبقة السياسية المهيمنة. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

 هل فازت مارين لوبان بالانتخابات الأمريكية؟