29-أغسطس-2015

شهد يوم السبت أكبر تجمع لبناني لا طائفي (بلال جاويش/الأناضول/Getty)

من على الشرفة يمكن تنشق السرطان، إنها الخامسة فجرًا في بيروت. الدخان الرمادي يعلو، المدينة تحترق. شيئًا فشيئًا استيقظت الشمس، ولم تجد مدينةً تشرق فوقها. بدلًا من ذلك، كانت النفايات مكومة على الطريق، سوداء وعابسة. إنها السادسة صباحًا، يوم جديد آخر بلا كهرباء. الأضواء القليلة التي تتلألأ في أعالي الجبل، الذي يسيّج بيروت، متربصًا وكئيبًا، هي أضواء، على قول الشاعر، متروكة لتأكيد الظلام. بيروت مدينة العتمة. البحر من ورائها، والعدو من أمامها. العدو، أخيرًا، السُلطة.

حاولت التيارات السياسية اجهاض الحراك لكن الناس ملأت الساحات

لم ينم اللبنانيون في الثامنة ليلًا، ليكتشفوا أن النفايات هطلت بالباراشوت أثناء نومهم. هذه نفاياتهم، التي تعرضوا لاستلاب طويلٍ بسببها، وبسبب سيل من الملفات الاجتماعية التي عولجت على مقاييس سياسية. لطالما كانت العقود مع شركة "سوكلين" لا تخلو من التباسات قانونية. لطالما كانت الكهرباء حلمًا في بلد السياحة. تعاقب على الوزارة أشخاص من حركة أمل، حزب الله، البعث السوري، القومي السوري، الطاشناق، والتيار الوطني الحرّ، وكي لا ننسى، إيلي حبيقة، الذي لو سمح له لارتكب مجزرة بالكهرباء، ربما، فكيف لا تبقى الكهرباء حلمًا. كل شيء كان جاهزًا، ومعدًا للاشتعال. النفايات هي بداية. النفايات تصدر رائحة قوية. بالعامية اللبنانية: "طلعت الريحة".


في هذه الأجواء، ظهرت مجموعة "طلعت ريحتكم"، التي استاء أحد الكتاب اللبنانيين المفرطين في النخبوية من اسمها الخفيف، هي عبارة عن مجموعة ناشطين. والكاتب، يمثل، من بين ما يمثل، فئة من اللبنانيين، الذين اعتادوا على العيش داخل النظام، والاعتراض عليه من الداخل. بكلمات أخرى، ليس لديهم ما يقولونه خارج النظام. وهم سلطويون بلا وعي، ويمتدون على رقعة واحدة بين إعلاميين ومثقفين ورياضيين، إلى آخره. السلطة في لبنان متماسكة ومتحركة، تحرك النفايات التي تراكمت على الطريق. والحال أن النفايات ليست نفايات سياسية بامتياز، إنما هي نفايات اجتماعية. لقد آن أوان الدفاع عن المجتمع. نزل اللبنانيون إلى الشارع كشافين، معترضين لا مستعرضين عضلات حزب الله، ولا نوستالجيات 14 آذار، التي لا تسمن من جوع، ولا تغني من لقاءات مع الحزب إلى طاولات حوار، وحكومات مشتركة. اتسع الحراك أفقيًا، فحاربته السلطة عموديًا. نزل المتظاهرون من أجل الكهرباء والماء إلى جانب النفايات، فقابلتهم الدولة بالهروات والقنابل. إنها المرة الأولى، منذ زمنٍ طويل، الذي يخرج فيها اللبنانيون ضدّ الدولة، ولا يخرجون ضدّ بعضهم البعض. 22 آب/أغسطس، لحظة يمكن أن تكون تاريخية، الأحلام مشروعة، والهواء مجاني.

امتدت الاعتصامات أسبوعًا كاملًا. في الليل تقريبًا تبدأ الروائح بالتسرب بقوة. أشياء كثيرة تحترق وتسبب السرطان، المواد البلاستيكية، النفايات الطبية... والدولة. لكن الاعتصام في الساحة باقٍ، ما بعد بعد 22 آب/أغسطس. حاولت تيارات سياسية يائسة تسلق الاعتصام. ميشال عون أجل حراكه إلى يومٍ آخر. حزب الله، كعادته، قال إن أمريكا تقف خلفه. وزير المالية الشهير، فؤاد السنيورة، طالب زعيم الحرب الآخر، وليد جنبلاط، بأن يغمز مناصريه، لفتح مطمر الناعمة "ويا دار ما دخلك شر". رئيس البرلمان، يحسب حساب اقتحام المتظاهرين لمجلس النواب، ويتعامل مع البلاد كما لو أنها برلمانًا ضخمًا، وهو يملك مفاتيحه.


الإعلام اللبناني، كان حذرًا في الانحياز إلى الشعب، وعندما ينحاز، كان ينحاز من دون موافقة تامة على ضرب الصيغة، التي تمثل الأرضية التي تقف عليها السلطة. لكن ثمة مؤسسات إعلامية انحازت إلى الناس. في الاعتصامات، لأول مرة أيضًا، يتحدث اللبنانيون عن السلطة، بوصفها سلطة، لا بوصفها مؤسسات طائفية متضاربة لمصالح إقليمية، كما كانت الأحوال في 8 و14 آذار/مارس، أو خلال أحداث 7 أيار/مايو سيئة الذكر. خلال الاعتصام حقق المتظاهرون لإنجازًا رئيسيًا، وهو تأكيد وجود فئة لبنانية تعمل خارج النظام، وخارج الصيغة.

ليلة السبت ــ الأحد، 22 آب/أغسطس، فقد الأمن صوابه. جرحى ورصاص حي. رصاص غير فئوي، ضدّ شباب غير فئويين. في اليوم التالي شيّد المشنوق، بعد عودته من الرقص في ميكونوس اليونانية، جدارًا فاصلًا بين السراي الحكومي والمتظاهرين. سرعان ما تحول إلى لوحة، تشبه البلاد. في اليوم الذي بعده، أزيل الجدار. وتتابعت الاعتصامات. على طريقة القذافي والأسد، اتهمت الدولة المتظاهرين بتعاطي المخدرات. وتتابعت الاعتصامات واتسعت، حتى السبت الكبير. سرت شائعات عن خلافات بين المنظمين، لكن سرعان ما اتفقت المجموعات الشبابية، طلعت ريحتكم، عالشارع، بدنا نحاسب، وشباب ضدّ النظام. سرعان ما جاء السبت، وجاءت الناس لتستعيد الساحة من الجميع.

المطالب الآن تتسع لتشمل انتخابات جديدة وفق قانون انتخابات عادل

بيروت؟ إنها كبيرة جدًا، إنها مدينة تبتلع القلب. أخيرًا، اللبنانيون بلا طوائفهم. أخيرًا، لبنانيون بلا أحزابهم. تدفق الآلاف إلى الوسط السليب. يُحكى كثيرًا عن محاولات لسرقة الحراك الشعبي، ولزج طائفيين بين الخارجين من طوائفهم. لكن الانتفاضة اللبنانية تتسع أفقيًا. المطالب الآن، مجلس نيابي جديد بديل عن المجلس الذي يمدد لنفسه منذ أربعين عامًا، تارةً بقوانين على قياس الطوائف، وتارةً أخرى بتمديد تعسفي فاضح. كل الحلول الأخرى تنطلق من هنا، من الصفر.

قرب مسجد محمد الأمين، جلس معتصم وبكى. قال إنه يحلم بهذه اللحظة. هرِمنا. هكذا قال بلكنة لبنانية هذه المرة. كفكف دموعه ونظر إلى المحتشدين. في المرات السابقة، انسحب المتظاهرون من أصواتهم. وهذه المرة، انسحبوا من طوائفهم. هرِمنا، قال الرجل المسن، بين شباب كثيرين. هرِمنا، لكن الشمس تُشرق فوق بيروت.


لمشاهدة ألبوم جدار الفصل اللبناني انقر هنا