في ظلّ حالة الاحتراب الأهلي في ليبيا بين الإخوة الخصوم، وفي ظلّ صراعات أحدثت شروخًا في النسيج المجتمعي في البلاد، تظهر وسائل الإعلام الليبية، وخاصة المرئية منها، كإحدى أدوات الصراع عبر دور سلبي تحريضي يساهم في تأجيج النزاع والتناحر. حيث أصبحت القنوات الليبية في السنوات الأخيرة أشبه بمدافع نارية على الأرض، بل لعلّها تلعب دورًا أكثر خطورة من ناحية الترويج لخطاب الكراهية والعداوة بدل الوئام والمصالحة.
تظهر وسائل الإعلام الليبية، وخاصة المرئية منها، كإحدى أدوات الصراع على الأرض عبر دور سلبي تحريضي يساهم في تأجيج الوضع
فإن كان لكل طرف في الصراع الليبي مجموعاته المسلحّة بل ومؤسساته الخاصّة، فلكلّ طرف كذلك ترسانته الإعلامية وقنواته المرئية تحديدًا الموجّهة للترويج لأطروحات هذا الفريق من جهة وللتحريض على خصومه من جهة أخرى. ويكاد لا يختلف اثنان بوصف الإعلام الليبي بأنه بات حربيًا بامتياز وهو ما كشفه تقرير أصدره مؤخرًا المركز الليبي لحريّة الصّحافة، وهو أول تقرير بحثي حول خطاب التحريض والكراهية في القنوات التلفزيونية الليبية.
اقرأ/ي أيضًا: الإعلام العامل في ليبيا.. "من أنتم"؟
إخلالات متساوية بين "المدافع الإعلامية المتحاربة"
يكشف تقرير المركز الليبي لحرية الصحافة، الذي رصد أداء 9 قنوات تلفزيونية هي الأكثر تأثيراً في الصراع السياسي والعسكري طيلة أسبوع في شهر شباط/فبراير الفارط، قيام جميع هذه القنوات، سواء كانت مؤيدة لهذا الطرف أو محسوبة على ذاك، بإخلالات مهنية. حيث توزّع 609 إخلالاً على جميع القنوات المحسوبة على مختلف الأطراف المتصارعة.
تصدّرت قناة "النبأ"، القريبة من حكومة الإنقاذ بطرابلس وتحديدًا من المفتي السابق الصادق الغرياني، قائمة القنوات الأكثر قيامًا بإخلالات مهنية بنسبة 16.2 في المئة تليها مباشرة قناة "ليبيا 24" بنسبة 15.6 في المئة. وتعرف هذه القناة بخطّ تحريري مؤيد لنظام القذافي ومعاد لثورة 17 فبراير، وتؤكد مصادر متعددة أنها تتلقى تمويلاً من الإمارات العربية المتحدة. كما تحلّ "قناة 218" التي تبث من العاصمة الأردنية عمان في المرتبة الثانية بنفس نسبة القناة السابقة والتي تشترك معها كذلك في الخط التحريري وفي المصدر الأساسي للتمويل.
وتحلّ في المرتبة الموالية قناة "ليبيا الحدث" بنسبة 12.6 في المئة وهي القناة المحسوبة على الحكومة المؤقتة المتمركزة في شرق البلاد وتحديدًا على المشير خليفة حفتر، الذي عادة ما يظهر على شاشتها. وتليها قناة "ليبيا لكل الأحرار" بنسبة 11 في المئة، وهي قناة تأسست من الدوّحة بعد اندلاع ثورة 17 فبراير، وتُعرف بخط تحريري مؤيد للإسلاميين في ليبيا. وتأتي خلفها قناة "التناصح" الإسلامية المحسوبة على المفتي السابق الصادق الغرياني. ثم تأتي في ذيل الترتيب ثلاث قنوات بنسب إخلالات تقلّ عن 10 في المئة، وهي قنوات "ليبيا HD"، و"بانوراما" و"الرائد"، وهي قنوات ذات سياسات تحريرية متباينة.
اقرأ/ي أيضًا: الحرب في ليبيا أم في الإعلام التونسي؟
إخلالات متنوّعة والصّحفيون يشاركون أو يتفرّجون!
كشف تقرير المرصد الليبي لحرية الصحافة عن تصدّر "الاتهامات دون حجج" قائمة الإخلالات المهنية المرصودة في القنوات الليبية التسع
كشف التقرير عن تصدّر "الاتهامات دون حجج" قائمة الإخلالات المهنية المرصودة في القنوات التسع، وذلك بنسبة 28.2 في المئة، يليها خطابات التحريض والدعوة للكراهية بما نسبته 18.5% فيما تليها حالات السب والتشهير 18.3%. وتتمثل بقية الإخلالات المرصودة بالدعوة للانتقام والإقصاء، وبث الإشاعات، التضليل الإعلامي، الوصم والتحقير، وعدم احترام كرامة الإنسان. وقد بلغت نسبة التحريض على القتل 1.4 في المئة أي ما لا يقل عن 9 دعوات للتحريض على القتل في القنوات الليبية وذلك في أسبوع واحد.
وفقًا لتصنيف البرامج التلفزيونية، وقعت قرابة 47 في المئة من الإخلالات المهنية في البرامج السياسية وهي تحتل المكانة الرئيسية بالقنوات الفضائية، فيما سجلت التغطيات الإخبارية للأحداث الأمنية والسياسية نسبة 19.3 في المئة، وتأتي من بعدها البرامج التفاعلية بنسبة مئوية بلغت 14.4% ومن ثم نشرات الأخبار والبرامج الساخرة.
وبخصوص القائمين بالإخلالات وفق تقرير المركز الليبي لحرية الصحافة، يتصدر الصّحفيون القائمة بنسبة بلغت 31 في المئة فيما حلّ الناشطون السياسيون المنتمون لمختلف التيارات المتصارعة في البلاد في المرتبة الثانية بما نسبته 24.3 في المئة ويأتي لاحقًا الجمهور بنسبة 12 في المئة. ويأتي تباعًا في قائمة أصحاب الإخلالات المحّللون السياسيون وقادة المجموعات المسلّحة وأعضاء الحوار السياسي.
كما كشف تقرير المركز الليبي لحرية الصحافة أنه في أكثر من نصف الإخلالات المرصودة، لم يقم الصحفي بأي ردّ فعل حيث لعب دور المتفرّج، بل إنه شارك فيما لا يقلّ عن 45 في المئة من هذه الإخلالات، وفي المقابل فإنه عارض وقوع الإخلال في 0.49 في المئة من مجموعها أي في 3 إخلالات فقط من إجمالي 609 إخلالاً مسجّلًا، وهو ما يؤكد بوضوح عدم حياد جزء كبير من الصحفيين وافتقادهم للمعايير المهنية في عملهم.
من المستهدف؟
بقدر ما كانت الإخلالات موزّعة على مختلف القنوات الفضائية المحسوبة على الأطراف المتصارعة في البلاد، فإنه قد تعدّدت الجهات المستهدفة موضوع الإخلال المهني، أي التي تمّ توجيه اتهامات إليها دون حجج أو التي تم التّحريض ضدّها وغير ذلك من الانتهاكات. وقد تصدّرت "عملية الكرامة" التي أطلقها المشير حفتر سنة 2014 قائمة الجهات المستهدفة وذلك بنسبة 12.3 في المئة، يليها المسؤولون الحكوميون بنسبة 10.6 في المئة، وثمّ ثورة 17 فبراير بنسبة 9.5 في المئة، فيما يحلّ رابعًا مجدّدًا المشير حفتر بنسبة 9.3 في المئة.
وتكشف قائمة الجهات المستهدفة أنه تم استهداف البلدان العربية فيما لا يقلّ عن 4 في المئة من الإخلالات، كما توجّهت خطابات التحريض أو الكراهية في وسائل الإعلام المرصودة نحو القبائل الليبية بنسبة 2.4 في المئة، وهي للمفارقة نفس نسبة البلدان الغربية.
في ضرورة تجاوز خطاب الكراهية
أكّد تقرير المركز الليبي لحرية الصحافة مدى استفحال خطاب التحريض والكراهية في الإعلام الليبي، كما كشف مدى احتكار المال السياسي للقنوات الفضائية لتوجيه الرأي العام، وهو ما يزيد منذ سنوات في تأجيج الصراع، حتى بات المصدح بمرتبة القذيفة إن لم يكن أكثر خطورة. وتعود هذه الفوضى الإعلامية لغياب جهات رقابية وتعديلية وذلك انعكاسًا لحالة الانقسام المؤسساتي في البلاد بوجود ثلاث حكومات متصارعة في البلاد.
ويمثّل اليوم تجاوز خطاب الكراهية شرطًا جوهريًا لتعبيد الطريق نحو المصالحة الوطنية في البلاد. إذ يجب إيلاء ملف الإعلام الأهمية القصوى من طرف جهات الوساطة والقوى السياسية والاجتماعية في البلاد خلال هذه الفترة، للوصول لتهدئة إعلامية على المدى القريب تفرض تخليًّا عن خطاب التحريض والكراهية، بما يهيئ لمناخ صحّي لانتهاء الاقتتال وتحقيق المصالحة. كما يجب، في الأثناء، العمل على وضع تشريعات زجرية وإنشاء مؤسسات رقابية مختصة لضمان إعلام نزيه ومهني على المدى البعيد.
اقرأ/ي أيضًا: