في لبنان، حكم النظام التعليمي على المدارس بأن يكون دورها تقليديًا، إذ يقتصر دور المدارس على تقديم دروسٍ علميةٍ أولية ضمن مناهج محددة، في حين يغيب دور التّعليم المجتمعي الاجتماعي في معظم المدارس الحكومية، التي تحولت فيها مادّة التّربية الوطنية والتّنشئة المدنية إلى مادةٍ كمالية، وجودها نظري لا قيمة فعلية له.
يغيب دور التّعليم المجتمعي الاجتماعي في معظم المدارس اللبنانية
تقع التربية والتنشئة المدنية على عاتق المدارس والثانويات، بما أنّها المسؤولة الأولى عن بناء المجتمعات ورعايتها ومتابعتها وتوجيهها التّوجيه الصّحيح. كما يجدر بالمدرسة أن تشجع على مراعاة "خدمة المجتمع" خارج الحصص الدراسية مما من شأنه الحفاظ على البنية المجتمعية الوطنية بغض النظر عن الطائفة، والمساهمة بتشارك العادات والقيم المختلفة بين أطر المجتمع اللبناني المتعدّدة. إن عدم الاستفادة من طاقات التلاميذ وإمكاناتهم التشاركيّة لمواجهة تحدّيات العصر ومتطلّباته، يُبقي شريحة واسعة من المواطنين وهم التلاميذ، لا مبالية ومغيّبة عن المشاركة والمواجهة والمعالجة.
إن جعل المدارس مؤسسات اجتماعية رائدة، بالتّعاون مع الجمعيات والوزارات المعنية، عاملٌ أساسي في إعداد الطّلاب للتأقلم مع الحياة الخارجية، أي المحيط البعيد عن المنزل والمدرسة، وإكسابهم المعارف والمهارات الحياتية الأساسية، وتفعيل دورهم ومساهمتهم في تطوير المجتمع، بحيث يتعزّز الرابط بين المدرسة والواقع والتلميذ والمجتمع الذي يعيش فيه.
اقرأ/ي أيضًا: الريف اللبناني..أين التكنولوجيا؟
"خدمة المجتمع" لا تزال مبهمةً كمفهومٍ حتى اليوم. إن "خدمة المجتمع" مظهر من مظاهر الانتماء للوطن، يتطوّر من خلاله العمل على رعاية مبدأ التّكافل والتّضامن الاجتماعيين، للحدّ من التّقسيم الحاصل في الشّارع اللبناني، والفيدرالية التّي تفرض نفسها عليه ولو بشكلٍ مقنّع.
وتعتمد "خدمة المجتمع" بالأساس على قيام مجموعة من الأفراد النّاشئة، كالطّلاب، بتلبية احتياجات المجتمع بما يتمتعون به من خبراتٍ نظرية أو علمية، ليطوّروها بدورهم مضيفين إليها خبراتٍ تقنية ومهاراتية. وتتوزّع الخدمات التي يمكن للطلاب تقديمها على إيجاد حلولٍ لمشاكل كالفقر والبطالة والأميّة والانحراف والمخدّرات والمشاكل البيئيّة كالتلوّث والتصحّر والمشاكل الصحيّة وغيرها.
جعل المدارس مؤسسات اجتماعية رائدة عاملٌ أساسي في إعداد الطّلاب للتأقلم مع الحياة الخارجية
تساهم "خدمة المجتمع" بتنمية قدرات الطّلاب على تقنيات ومهارات القيادة، إضافةً إلى التّعاون والتّطبيق والتّحليل والتّقييم العملي لسوق العمل، أي تدعيم التّدريب العملي لما قبل الدّخول إلى الحياة الاقتصادية، مرحلة ما بعد التّخرج، في تثبيتٍ لأهمية دور المدرسة كمؤسسة مجتمعية، لا صرح تعليمي بحت يغيب عن معالجة الشّق التّربوي.
ويتعارض دور المدرسة التّقليدي اليوم مع الأهداف العامة للمناهج الصادرة بالمرسوم رقم 10227/97، إذ ينصّ المرسوم على "تنمية شخصيّة اللبناني كفرد وكعضو صالح ومنتج في المجتمع، توعيته على المشاركة في العمل الاجتماعي كحقّ له وواجب عليه تجاه مجتمعه ووطنه، تكوين شخصيّته الفرديّة، وتحقيق ذاته وتحمّل مسؤوليّته والالتزام الأخلاقي، والتعامل مع الآخرين بروح المواطنيّة المسؤولة والمشاركة الإنسانية"، بالتالي ربط المنهج الدّراسي وما يتعلّمه الطّلاب بمجتمعهم، من شأنه تحقيق غايات التربية وأهداف المناهج التعليميّة المطبّقة.
أثبتت الدّراسات التّي أجريت في عدّة دولٍ تطبّق نظام "خدمة المجتمع" أن مردودها كان إيجابيًا، وأسهم في ترسيخ المعارف والحقائق التي يجب على التلاميذ التعرّف إليها واكتسابها، وفي تقوية الاتجاهات الإيجابيّة لديهم نحو حبّ العمل، ومساعدة الغير، مع التعامل الواعي مع الآخرين، واحترام حقوقهم وحريّاتهم وخصوصيّاتهم، إضافة إلى تعزيز قناعاتهم بضرورة احترام القوانين والأنظمة والعادات والتقاليد والالتزام بها. والأهم تقبّل الآخرين والسّعي إلى التواصل معهم واحترام آرائهم على خلفيّة حق كل فرد في التفكير والتعبير، وممارسة حريّاته الشخصيّة والاجتماعيّة والمدنيّة في نطاق القانون.
تستطيع البيئة المدرسية، بهيكليتها القادرة على مراقبة ومواكبة ومتابعة الطّلاب، اختيار أنشطة وخدماتٍ مجتمعية تناسبهم كما يستطيع الأساتذة المساهمة في تمكين التلاميذ من اتخاذ القرارات البنّاءة، فالمشاركة في خدمة المجتمع واتّخاذ القرارات المتّصلة بها تشكّل مشاركة حقيقية في الالتزام المواطني.
كما يشكّل التنسيق بين أساتذة مختلف المواد الدراسيّة، معطى مهمًا من أشكال الاحتضان والرعاية، ويسهم في رفد مشروع الخدمة بالمعارف والمواقف والمهارات المتّصلة به، والمستقاة من مواد دراسيّة عدّة، لأن المنطلقات المعرفيّة والمستلزمات التطبيقيّة لمشاريع خدمة المجتمع ليست حصريّة بمادة دراسيّة من دون أخرى، بل تتناول مواضيع متعدّدة تتغذى من مضامين مختلف المواد وفقًا لطبيعتها وخصوصيّتها، بحسب المركز التّربوي للبحوث والإنماء.
وبانتظار تطبيق القرار رقم 4/ 2013 بتاريخ 2 /1/ 2013 والذي ينصّ على تطبيق مشروع خدمة المجتمع في الثانويّات الحكومية والخاصة، يُسجّل لبعض المدارس محاولات إدخاله إلى مناهجها، لكن بخجل، بينما أكّدت الدّراسات أن التلاميذ المنخرطين في مجال الخدمة الاجتماعيّة كانوا الأكثر تفوّقًا في مدارسهم، والأكثر إقبالاً على المدرسة وعلى التعلّم، لأن التعلّم عبر الخدمة يكمل عمليّتي التعليم والتعلّم المدرسي ويعزّزهما ولا يحل محلّهما أو يلغيهما.
اقرأ/ي أيضًا: