29-نوفمبر-2016

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (آدم التن/أ.ف.ب)

لطالما أحيط السؤال "ما الذي يدفع السياسة الخارجية التركية؟" بالكثير من الجدل. خلال عهد أحمد داوود أوغلو كرئيسٍ للوزراء، اعتبر الخبراء أن أنقرة توسعية مغامرة، تحركها الأيديولوجيا، وبالتالي فهي تسبب توترًا كبيرًا مع جيران البلاد والقوى الدولية. وعندما حل محله بن علي يلدريم، تبنى حزب العدالة والتنمية الحاكم والرئيس رجب طيب أردوغان نبرةً أكثر تصالحية.

عقب الانقلاب الفاشل، بدأت تركيا في انتقاد اللامبالاة الغربية بالتحديات التي تواجهها أنقرة، وبدا أنها بدأت في الابتعاد عن الغرب

أعلن أردوغان في نيسان/أبريل 2016 أن تركيا تحتاج إلى اكتساب المزيد من الأصدقاء وتقليص عدد أعدائها. سريعًا تم اعتبار تركيا حذرة وبراجماتية ومتجنبة للمخاطر. ساعدت الانفراجة في العلاقات التركية مع إسرائيل وروسيا آنذاك في تعزيز ذلك التصور، التصور الذي وصل أيضًا إلى نهايته.

في مقالٍ له بـمجلة فورين أفيرز، يحاول جالاب دالاي، وهو زميل مشارك بمركز الجزيرة للدراسات، مختص في الشؤون التركية ومدير الأبحاث بمنتدى الشرق، تفسير التحولات التي شهدتها السياسة الخارجية التركية في مرحلة ما بعد الربيع العربي.

اقرأ/ي أيضًا: بالخرائط..تركيا تستعيد الامبراطورية العثمانية

عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة في الخامس عشر من تموز/يوليو الماضي، بدأت تركيا في انتقاد اللامبالاة الغربية بالتحديات التي تواجهها أنقرة، ومن هنا نشأ جدالٌ طويل حول الانحياز الحقيقي لتركيا، حيث بدا أن البلاد تبتعد عن الغرب في اتجاه تحالفٍ مفترض مع روسيا. علاوةً على ذلك، شنت تركيا عملية درع الفرات، والتي هدفت إلى طرد داعش من مناطق الحدود ومنع حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية المرتبطة به من السيطرة على المنطقة. كما أصرت تركيا على المشاركة في أي عملية لتحرير الموصل من قبضة داعش. بالنظر إلى تلك التحركات في صورةٍ واحدة فإنها تظهر أن تركيا لم تقلص من حجم طموحات سياستها الخارجية أو تبنت نبرةً تصالحية، خاصة عندما تكون مصالح أمنها القومي في خطر. أكد إعلان أردوغان عن عقيدةٍ أمنية استباقية جديدة في مواجهة كلا المخاطر الداخلية والخارجية ذلك التوجه.

ويوضح دالاي أن السبب الذي جعل السرديات المتداولة بشأن السياسة الخارجية التركية تتجاهل الصورة الكبيرة هو أن كلًا منها تركز على فاعلٍ وحيد، سواء كان هذا الفاعل هو أردوغان أو داوود أوغلو، بينما في الواقع فإن متطلبات الواقع الجيوسياسي الإقليمي بالإضافة إلى المخاوف السياسية الداخلية والتحديات الأمنية التي تواجه أنقرة هي التي رسمت الخطوط العريضة للسياسة التركية في الأعوام الأخيرة.

خروج الربيع العربي عن مساره

في البداية، يشير دالاي، "كان التركيز الرئيسي للانتفاضات العربية على مطالب سياسية. جعل التاريخ الطويل، وإن كان مضطربًا، للديمقراطية البرلمانية التركية أنقرة قادرة على فهم طموحات الشعوب العربية، كما حفزت الهوية الدينية لبعض المجموعات، التي قادت الاحتجاجات، حزب العدالة والتنمية الإسلامي على دعمها، معتقدًا أن الهويات المشتركة والمطالب السياسية سوف تشكل أسس التعاون بمجرد استقرار الغبار الإقليمي. في ذلك الحين، اعتقدت تركيا أن التغيير حتمي، لتلقي بثقلها خلف الانتفاضات. تبنت تركيا رؤيةً تشمل المنطقة بالكامل، تنبأت فيها بنظامٍ إقليمي ديمقراطي جديد تقوده أنقرة".

اليوم، يرى دالاي، "قادت أربع عوامل رئيسية تركيا إلى مراجعة افتراضات سياستها الخارجية خلال الربيع العربي. كان الأول هو تحول الانتفاضة السورية إلى حربٍ أهلية شاملة في عام 2012 وأوائل عام 2013. كان الثاني هو الانقلاب في مصر في تموز/يوليو 2013. أظهر هذان الحدثان أنه يمكن صد أمواج التغيير في العالم العربي. كان العامل الثالث هو أن صعود "تنظيم الدولة الإسلامية" قاد المجتمع الدولي إلى إعطاء الأولوية للأمن في المنطقة بدلًا من دعم الانتقالات الديمقراطية البارزة حديثًا. إضافةً إلى ذلك، استغلت بعض البلدان الوضع في سوريا، مثل السعودية وإيران، لزيادة الاستقطاب في العالم العربي على خطوطٍ طائفية بل ونزع الشرعية عن الحركات الإسلامية الرئيسية. في الغرب، أصبحت العلمانية الليبرالية في مواجهة الديمقراطية، وهو ما قلص بدوره الدعم الغربي للانتفاضات العربية عامةً وجماعات المعارضة السورية على وجه الخصوص".

اقرأ/ي أيضًا: ثلاثة أسباب للتقارب الإيراني التركي

وأخيرًا، دفعت داعش الحركات الكردية في كل من سوريا والعراق إلى توسيع رقعة سيطرتها بعد أن نالت هذه الحركات تعاطفًا وشرعية دوليين ومساعداتٍ عسكرية. كانت نقطة التحول الأبرز في ذلك السياق هي حصار داعش لبلدة كوباني السورية الحدودية في أيلول/سبتمبر 2014. انتصار وحدات حماية الشعب في كوباني منحها اعترافًا دوليًا كقوةٍ محاربة شرعية وقادرة على مواجهة داعش. حفز القتال المشاعر القومية لدى الأكراد في المنطقة، حيث استغل حزب العمال الكردستاني التعاطف والشرعية الدوليين مع الأكراد (بالإضافة إلى المكاسب التي حققوها على الأرض) ليتبنى موقفًا تفاوضيًا أقوى مع تركيا.

بانهيار عملية السلام الكردية وإطلاق حزب العمال الكردستاني حرب مدن على غرار التي تجري في سوريا في المناطق الشرقية والجنوب شرقية ذات الأغلبية الكردية بتركيا خلال العام الماضي، أعطت أنقرة الأولوية للأمن القومي في مقابل المبادرات السياسية وعدلت سياستها الخارجية لتتوافق مع النهج الجديد. علاوةً على ذلك، شنت داعش أيضًا هجماتٍ داخل تركيا، مستهدفةً في البداية المجموعات الكردية واليسارية، لتقوم في مرحلةٍ تالية بهجماتٍ انتحارية كانت موجهة في أغلبها ضد السياح والأجانب، وهي التي يرجح أنها كانت مدفوعة بانضمام تركيا للتحالف الدولي لمكافحة داعش. فاقم هذا من تحديات الأمن القومي لتركيا، وهو ما أدى بدوره إلى تعديلاتٍ كبيرة في السياسة الإقليمية التركية.

بينما تشعر تركيا بأن حزب العمال الكردستاني هو أكبر تهديداتها، بدا أن الغرب يتجاهل مخاوفها عبر دعم وحدات الحماية الكردية

قوىً خارجية

في الوقت الذي شعرت فيه تركيا بأن حزب العمال الكردستاني هو أكبر تهديداتها، بدا أن الولايات المتحدة والغرب يتجاهلون مخاوفها عبر التواصل مع، ودعم، وحدات الحماية الكردية، المنظمة الشقيقة للحزب، في حربها ضد داعش. علاوةً على ذلك، حافظت الولايات المتحدة على تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية التي تشكل وحدات حماية الشعب قوامها الرئيسي، لتصبح القوة البرية الرئيسية التي استخدمتها واشنطن لتحرير منبج، التي أصبحت موطئ قدم قوي للوحدات على الضفة الغربية لنهر الفرات. بذلك أصبحت وحدات حماية الشعب قريبة من تحقيق هدفها النهائي بوصل الكانتونات الكردية الثلاث في رقعةٍ متصلة. تدخلت تركيا سريعًا لمنع حدوث ذلك. وأدى كل ذلك إلى زيادة توتر العلاقات وانخفاضٍ حادٍ في الثقة بين تركيا والغرب.

في تلك الأثناء، وجدت تركيا نفسها في مواجهةٍ مع إيران. مع انحسار السياسة الإقليمية التركية لتقتصر فعليًا فقط على أنشطتها في شمالي العراق وشمالي سوريا، كانت القوة الإقليمية الرئيسية التي تنافست معها هي إيران. في البيئة الإقليمية الحالية، تتفوق طهران على أنقرة. كانت أنقرة أكثر قدرة على التعامل مع ظاهرة الربيع العربي عندما كان تركيزه الرئيسي على مطالب سياسية-اجتماعية واقتصادية-اجتماعية. عندما تحولت الانتفاضات إلى حروبٍ عرقية وطائفية، أصبحت الأفضلية لطهران، التي استثمرت طويلًا في الميليشيات الشيعية التي تتحكم بها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، والتي بدورها تمنح سياسة طهران الإقليمية أساسًا قويًا.

لموازنة النفوذ المتزايد لطهران، والتي تتعارض أهدافها مع تلك الخاصة بتركيا، سعت تركيا إلى الحصول على حلفاءٍ إقليميين. في سوريا، سعت تركيا إلى دعم القوى المعادية للأسد وإيران، دون نجاحٍ كبير. وفي العراق، حاولت تركيا الحد من نفوذ إيران على البلاد عبر التحالف مع حكومة إقليم كردستان، وخاصةً الحزب الديمقراطي الكردستاني، والعرب السنة. كان المنطق التركي لمحاولة الحصول على دورٍ في استعادة الموصل هو احتواء إيران عبر منع أي عمليات هندسة ديموغرافية في وحول الموصل، ومنع حزب العمال الكردستاني من الاستفادة من العملية الفوضوية. على المستوى الإقليمي، بدأت تركيا والسعودية في التعاون لمواجهة نفوذ إيران المتزايد، حيث دعمت تركيا التدخل السعودي في اليمن ودعت إيران إلى الانسحاب من البلاد، كما تعاونت مع السعودية أيضًا في سوريا.

السياسة الخارجية في المستقبل

تبدو السياسة الخارجية التركية في الوقت الحالي مدفوعة بمخاوفها الأمنية وقائمة على تحالفاتٍ مرتجلة تختلف حسب السياق. مؤسساتيًا، لم تنحرف تركيا كثيرًا عن الناتو وتوجهها الغربي، لكن أنقرة لم تعد تتمتع بوضوح الرؤية الذي كان لديها خلال ذروة الانتفاضات العربية. لم يتحقق توقع تركيا بانهيار النظام الإقليمي القديم واستبداله بآخر أفضل لمصالحها. في الوقت الحالي، أصبحت إدارة المخاوف الأمنية المرتبطة بالأزمات الإقليمية الهدف المحوري للسياسة الخارجية التركية الحالية. خلال المستقبل القريب، سوف يكون لدى أنقرة سياسة اشتباك انتقائية في المنطقة، تنحي جانبًا المسؤوليات في المناطق التي تعتبرها ذات أهمية ثانوية، بينما تخاطر وتستثمر الوقت والمال والطاقة والدم في المناطق المرتبطة بمخاوف الأمن القومي لديها.

اقرأ/ي أيضًا: 

في أعقاب الانقلاب..شرخ كبير بين تركيا وأمريكا

لماذا دخلت تركيا إلى الحرب السورية