مكتبات الكليات في دول تعرف للعلم قيمته هي بمثابة نافذة تطل منها على العالم، شبيهة بعدسة مقعرة ترى الأشياء من خلالها عن قرب، شيء تثبت به لنفسها استمراريتها على المدى القريب والبعيد، توفر من خلالها المواد الثريّة المُحدّثة دائمًا لباحثيها وطلابها حتى يواكبوا حركة التطور، وفوق كل ذلك تجد تجاوبًا وإقبالاً من الطلبة والباحثين عليها، لأنه من غير المنطقي أن تعتني الدولة بهذه المكتبات ثم لا تجد تجاوبًا.
لا يقبل الطلبة عادة في عالمنا العربي على مكتبة الجامعة إلا لضرورة بحثية، يشتكون من الكتب المتوفرة ومعاملة المشرفين
أما الصورة عندنا فتظهر معكوسة كعادتها دائمًا، فالمشهد يحكمه الروتين الذي يطبق بخناقه على أي شيء تابع للحكومة، فإذا ذهب إليها الطالب يذهب على مضض، إذ لا طاقة له أن يدخل إلى تلك الأماكن، التي يفشل مصمموها عادة في أن تحصل على قسط من التهوئة. تكون في العادة منزوية في ركن بعيد لا يصله الضوء تقريبًا، آلاف الكتب المكدسة ومشرفون لا يكفون عن الأمر والنهي وهو ما يصل إلى حد الزجر، كل تلك الأشياء مجتمعة جعلت من مكتبات الكليات في عالمنا العربي مكانًا منفرًا لا طائل من الذهاب إليه إلا مزيدًا من الملل والرتابة، والطلبة في غنىً عنها.
اقرأ/ي أيضًا: البحوث العلمية.. حبيسة الجامعات الجزائرية
إذا حضرت مؤتمرًا لأي رئيس جامعة في مصر وتم التعرض لمكتبات الجامعة وللأبحاث فحتمًا سيؤكد أنهم ينفقون ببذخ عليها، فإذا ما ذهبت بنفسك لتشاهد ثمار "هذا الصرف" لن تجد شيئًا، ستجد المشهد ذاته، اللهم إلا بعض المناضد والمقاعد التي تتغير من حين إلى آخر. ولو فرضنا أن الجامعة توفر للطلاب والباحثين المراجع والكتب الحديثة، فما السبب إذًا وراء فراغ المشهد من الطلاب، حاولت "ألترا صوت" أن تقترب من المشكلة أكثر وأن تلقي الضوء عليها، وذلك بالحديث مع طرفيها من الطلاب والمشرفين.
مكتبات باحثين لا مكتبات طلاب
بعض الطلبة رأوا أن "الجامعة تعاني قصورًا في تقديرها للأمور"، إذ إنها، حسب تعبيرهم، "تأتي بالمراجع التي لا تناسب الطلبة في مرحلة الدراسة الأولى، والذين لم يصلوا بعد إلى مرحلة ما بعد التخرج ، فمعظم الكتب لا تلائم غير الباحثين في مراحل دراسية متقدمة".
وصرح طالب بكلية الصيدلة، جامعة عين شمس، لـ"ألترا صوت": إن "طلاب الدراسات العليا هم الأكثر إقبالاً بسبب شدة احتياجهم للكتب والمصادر الموجودة في مكتبات الكليات"، مؤكدًا أن "أغلب أصدقائه لا يدخلون المكتبة إلا للأبحاث التي تُطلب منهم، فهذا ما يناسب محتوى المكتبة، وهو بعيد تمامًا عن مستوى الطالب في السنوات الأولى".
واتفق معه طالب بكلية التربية بنفس الجامعة، الذي أضاف أن "الطلاب يتعاملون مع المكتبة وكأنها غير موجودة لافتقارها للكتب المرغوب مطالعتها، فالمكتبات تقتصر على المراجع الضخمة والتي لا يستفيد منها إلا الباحثون، وشريحة قليلة من الطلاب تذهب إلى المكتبة عندما تكون بصدد إجراء بحث معين، أما المطالعة والجلوس للاستمتاع بالقراءة فهذا من النادر وجوده إن لم يكن منعدمًا".
ولفت طالب بكلية الإعلام في جامعة القاهرة الانتباه إلى بعد آخر للمشكلة وهو سوء معاملة مشرفي المكتبة مع الطلاب، يقول، في هذا السياق، إنهم "يتعاملون مع الكتب وكأنها ملكية عامة وعُهدة يحرم لمسها أو استخدامها، إذ سرعان ما تصيبهم هيستريا عندما يرون طالبًا يقف بالقرب من رف في المكتبة، فينهال عليه التوبيخ ويُؤمر بالجلوس، في حين أن الكتب مبعثرة دون ترتيب فمن باب أولى أن يعتنوا بتنظيمها"، عاقدًا مفارقة بين سوء المعاملة في كليته والمكتبة المركزية، التي تتمتع بتنظيم أكثر، حسب رأيه.
اقرأ/ي أيضًا: أنا عراقي أنا أقرأ.. 12 ألف كتاب في الفضاء العام
رومانسية في المكتبة
صارت مكتبات الجامعة صالحة للـ"غراميات" أيضًا، بل صارت تسمى عند البعض بـ"حديقة العشاق"
ما دخل المكتبات بالعلاقات العاطفية؟، يحاول بعض الطلبة أن يزيحوا الاستفهام عن الجملة، بالقول إن "المكتبة مثل أي مكان في الجامعة يصلح للغراميات أيضًا، بل قد يكون من أفضل الأماكن التي تصلح لهكذا تصرفات، نظرًا للهدوء الذي تتمتع به وهذا شيء يتطلبه الموقف جدًا، وبعضهم يتستر بقراءة كتاب حتى لا يلفت أنظار أمناء المكتبة إليه". وحول ذلك علّق أحد الطلبة بجامعة القاهرة، بطريقة تهكمية، لـ"ألترا صوت": "لقد أصبحت أماكن رومانسية أكثر منها أماكن للقراءة، فمعظم الكتب الموجودة لا يقترب منها أحد، وتجد معظم الطلاب الجالسين داخل المكتبة يتسامرون، وكثيرًا ما نرى صديقًا وصديقته يتبادلان الضحك والمغازلات ولا يطالعان أي كتب"، ووجودهم في المكتبة ربما يوفر جوًا من "العمق المفتعل"، حسب تعبيره، ويضيف: "إنها تشبه حديقة العشاق".
آراء وحلول
لمشرفي المكتبات الجامعية رأي آخر، حيث أوضحت تغريد مصطفى، أمين عام مكتبة بجامعة القاهرة، لـ"ألترا صوت" أن "السبب في عزوف الطلاب عن مكتبات الكلية هو التنشئة الاجتماعية للطفل من البداية والتي لم تعوده على حب البحث والقراءة منذ الصغر، بالإضافة إلى التطور التكنولوجي الهائل، الأمر الذي دفع الجميع للإقبال على الإنترنت بدلاً من مكتبات الكليات". وأضافت: "المكتبات الجامعية أكاديمية متخصصة تخاطب جمهورًا معينًا، ولا تقتصر على الروايات والكتب الأدبية، وقد يكون هذا أحد أهم الأسباب وراء ضعف الإقبال عليها، فهي تضم المراجع الضخمة والدراسات التي لا يستطيع أي شخص فهمها".
واقترحت حلاً، وهو أنه "يجب تغيير طريقة التعليم من طريقة أكاديمية إلى طريقة تفاعلية وأن يعتمد الأساتذة في تكليفاتهم على مصادر ومراجع تجعل العلاقة بين الطالب والمكتبة في وضع أفضل، كما يجب على اتحاد الطلبة أن يقوم بدورات وندوات بين الطلاب للتعريف بأهمية ودور القراءة الأكاديمية". كما أشارت إلى أنه "من الضروري وجود حملة توعوية للآباء والأمهات لكي يهتموا بتنشئة الأطفال وتربيتهم، وهو ما يزيد شغفهم في الكبر بالمطالعة والقراءة لأي شيء مكتوب، وفي نفس الوقت يرتقي بالمستوى الفكري لدى الشباب ويرتفع بمجتمعنا في المستقبل".
وقال خالد الساداتي، مشرف عام على مكتبة دار العلوم بجامعة القاهرة إن "الأمر أصبح يشكل قضية جيل كامل"، مؤكدًا أنه يرى اختلافًا كبيرًا بين حال الشباب في الوقت الحالي وحال الشباب في "زمانه". وأضاف: أن "إدارة المكتبة والكلية كذلك عليهما دور مهم فى إعادة واجتذاب الطلاب مرة أخرى إلى المكتبة، ومشرفو المكتبة يجب أن يساعدوا الطلاب عند زيارتهم للمكتبة ويستقبلوهم لشكل حسن، وأن يساعدوهم فى الوصول إلى الكتب والمراجع التي يريدونها دون عناء، وأن يوفروا لهم سبل الراحة، كما من الممكن أن تنظم إدارة المكتبة مسابقات بحثية حتى تكون حافزًا للطلاب وتشجيعًا لهم على القراءة".
أما أحمد يوسف، دكتور في جامعة عين شمس، فأرجع الإقبال الضعيف على المكتبات إلى "سوء معاملة المشرفين فيها للطلاب والوافدين، وعدم السماح لهم بالبحث بحرية عما يريدون من الكتب والمراجع، وهو أمر غريب فمن المفترض أن يكون الحال غير ذلك، فالطالب لا يعقل أن يعامل بعبارات "لا تأخذ هذا"، "لا تقف بجانب الرف"، "اترك هذا"، و"اجلس هنا"، لا يتعلق الأمر بأطفال صغار غير واعيين"، حسب تعبيره.
وأشار إلى أن "الكتب المتوفرة في مكتبات الجامعة أكاديمية وتتسم بالصعوبة والتعقيد، وهي سمة الكتب المستخدمة في الأبحاث وبالتالي من الضروري توفير كتب أخرى قد يحتاجها الطالب لغرض القراءة فقط وليس لغرض البحث".
يعاني المشرفون في المكتبات والطلبة في آن واحد من رتابة وروتين النظام، الذي يحكم العملية التعليمية والتي تتعامل معها الدولة كتعاملها مع سائر مؤسساتها، انطلاقًا من مشرفي المكتبة الذين يفتقدون مهارة التواصل والتعامل اللائق مع الطلبة مع قلة خبرة وثقافة بالكتب الموجودة داخل المكتبة، ووصولًا إلى حالة الخمول الفكري لدى الطلبة وسوء المنظومة التعليمية ككل.
اقرأ/ي أيضًا: