نشرت صحيفة الغارديان البريطانية، مقالًا للكاتب والأكاديمي العربي مصطفى بيومي، يُشير فيه إلى التضليل الذي تمارسه وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية، عندما يتعلق الأمر بتناول قضايا الانتهاكات التي يتعرض لها الفلسطينيون من قبل الإسرائيليين. ويضرب على ذلك أمثلة أخيرة لتغطية وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية للمذبحة التي نفذتها القوات الإسرائيلية بحق المتظاهرين الفلسطينيين في مسيرات العودة الكبرى. في السطور التالية، ننقل لكم المقال مترجمًا ببعض التصرف.
إنه لقدر خاص ذلك الذي يعاني المظلومون منه في كل مكان، إذ إنهم حين يُقتلون، فإنهم يُقتلون مرتين، المرة أولى بالرصاص والقنابل، والثانية باللغة المستخدمة لوصف مقتلهم. ففي النهاية اعتاد المظلومون أن يلاموا على كونهم ضحايا، ويقبع هذا اللوم في لغة مصممة خصيصًا لتجريد المقموعين من نضالهم وكفاحهم ومعاناتهم.
عانى الفلسطينيون لعقود طويلة ليس فقط من القتل والانتهاكات، وإنما أيضًا بإلقاء اللوم عليهم كونهم ضحايا!
كان هذا الموقف لعقود طويلة مصيرًا مأساويًا عانى منه الفلسطينيون، الذين هم أنفسهم يتلقون اللوم حين يُقتلون بأيدي الإسرائيليين، وهذا اللوم ليس فقط من قبل الحكومة الإسرائيلية، وإنما من وسائل الإعلام الأمريكية والمؤسسات السياسية في الولايات المتحدة، حتى أصبح من المعتاد توقع هذا اللوم للفلسطينيين، بأنهم سقطوا ضحايا!
اقرأ/ي أيضًا: خاص بـ"ألترا فلسطين": إجماع وطني على استمرار مسيرة العودة
وليس علينا أن نقبل بهذا. فإذا ما أولينا اهتمامًا كافيًا للغة المستخدمة في وسائل الإعلام، فبإمكاننا أن نرى كيف يحدث هذا القتل الثنائي للمظلومين؛ مرة بالرصاص ومرة في الأخبار. وعليه، فيمكننا أن نتعلم كيفية مقاومة هذه الطريقة الخبيثة في تصوير وتأطير الكفاح الفلسطيني.
لنلقي نظرة على عناوين الأخبار: يوم الإثنين قتل الجيش الإسرائيلي 60 متظاهرًا في غزة، كان هذا العنف الفتاك غير متكافئ، ومن طرف واحد، إذ لم يُقتل أي إسرائيلي. وفي خضم المذبحة نشرت صحيفة نيويورك تايمز روايتها للأحداث الدموية على حسابها على تويتر، تقول فيها "موت عشرات الفلسطينيين في تظاهرات أثناء استعدادات الولايات المتحدة لافتتاح سفارتها في القدس". السؤال هو: هل هؤلاء المتظاهرون قد "ماتوا"؟ فعلًا؟ يعني أنهم لم يُقتلوا وماتوا من أنفسهم أو في ظرف غامض؟!
علينا ملاحظة أن نبرة التجهيل في هذه التغريدة/الخبر، تخفي من قام بالفعل حقًا، تمامًا ما هو الحال مع استخدام صيغة المبني للمجهول. في هذه التغريدة/الخبر، من الواضح أنّ إسرائيل لا تتحمل أي مسؤولية اتجاه مقتل المتظاهرين، ويبدو في المقابل، كما لو أن الفلسطينيين ماتوا لسبب ما أو بطريقة غامضة!
كانت التغريدة صادمة بالنسبة لكثيرين، من بينهم المخرج جاد أباتاو، الذي غرد قائلًا: "عار عليكم، هذا تمامًا مثل نعت أكاذيب ترامب بـ(حقائق غير دقيقة). أرجوكم قولوا لي إن من يدير حسابكم على تويتر هو متدرب قليل الخبرة".
على كل، ولنكن منصفين، فقد جاءت عناوين الأخبار في النسخة الورقية الصادرة يوم الثلاثاء الماضي، أكثر وضوحًا بكثير، إذ جاء العنوان الرئيسي: "الإسرائيليون يقتلون العشرات في غزة".
لكن ليست نيويورك تايمز الوحيدة التي نشرت عناوين مضللة، فقد جاء في واشنطن بوست، في العنوان الرئيسي عن المذبحة التي وقعت بحق الفلسطينيين: "غزة تدفن قتلاها.. وعدد قتلى الاحتجاجات عند السياج الحاجز مع إسرائيل يرتفع إلى 60 على الأقل". ومجددًا يتركنا العنوان متسائلين عمن قتل أهالي غزة، وهل علينا افتراض أن هؤلاء المتظاهرين قتلوا، أو ماتوا، من تلقاء أنفسهم مثلًا!
وهكذا فعلت صحيفة وول ستريت جورنال، لمّا نشرت على موقعها مقطع فيديو بعنوان: "صدامات بسبب السفارة الأمريكية في القدس خلّفت عشرات القتلى". هذا العنوان يستحق جائزة أسوأ عنوان صحفي، أولًا لأنه وصف المجزرة بالصدامات، وهو توصيف مضلل بطريقة مقززة. ثمّ صوّر الفلسطينيين على أنهم يتظاهرون فقط احتجاجًا على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، في حين أن مسيرات العودة الكبرى في غزة، نُظّمت بشكل أساسي لجذب الانتباه لمأساة اللاجئين الفلسطينيين الذين يشكلون 70% من سكان قطاع غزة.
ثم هناك العبارة الحاضرة دائمًا في العنوان: "خلفت عشرات القتلى"، والتي مجددًا لا تخبرنا عمن أطلق النار على من، واصفة الأمر بأنه كان "صدامات" بدلًا من قتل الناس، بينما تلمح مرة أخرى إلى أن الفلسطينيين هم المسؤولون عن مقتلهم بشكل أساسي، نعم أليست "صدامات"؟! الأمر أشبه بلو أن هناك رصاصات معلقة في الهواء تنتظر الفلسطينيين الذين يهرولون إليهما عمدًا!
كتب جورج أورويل قبل 70 عامًا، أن اللغة السياسية الحديثة "مصممة لجعل الأكاذيب تبدو في مظهر الصدق وإكساب القاتل احترامًا"
مثل هذه العناوين الرئيسية، هي المعادل الصحفي لتصريح سفيرة الولايات المتحدة نيكي هالي، في مجلس الأمن، الذي قالت فيه: "لن تتصرف أية دولة في هذه القاعة بضبط نفس أكثر مما فعلت إسرائيل". مثل هذه اللغة لا تعمل فقط على حماية إسرائيل من الانتقاد، بل وأيضًا بشكل أساسي لحماية إسرائيل من المساءلة.
قبل أكثر من 70 عامًا كتب جورج أورويل أن اللغة السياسية الحديثة "مصممة لجعل الأكاذيب تبدو في مظهر الصدق وإكساب القاتل احترامًا". من المحزن بالنسبة لي أن أرى أن الأشياء لم تتغير. ولن تتغير ما لم نطالب بالمزيد من الأمانة المهنية من قبل مروجي اللغة السياسية في أيامنا هذه. يستحق الفلسطينيون ما هو أفضل من ذلك. كلنا نستحق ما هو أفضل من ذلك. وليس على أحد أن يموت أكثر من مرة واحدة.