25-أبريل-2018

زهير حسيب/ سوريا

لطالما كان هناك مداخل ومقاربات عدة لفهم التاريخ وحوادثه ونفسيات من مروا به قبلنا، فهناك التفسير الأسطوري والمثالي والديني والمادي، وغير ذلك، لكن كانت دومًا استحالة وجود "نظرية" واحدة لتفتح مغاليق جميع الأبواب.

أيصلح الحب أن يكون مفسرًا للتاريخ كما فسرته الشهوة والدوافع في كثير من الأحيان؟

أيصلح الحب أن يكون مفسرًا للتاريخ كما فسرته الشهوة والدوافع في كثير من الأحيان؟ أم أنه كالبهار السري متضمن في معظم التفسيرات ذات الاعتبار والوزن؟ يبدو الحب وكأنه ركن أو زاوية خاصة، يمكنها تفسير التطور البشري وتعليل قيام الحضارات وانهيارها؟

الحب والقصص الكبيرة

يرى الدكتور محمد حسن عبد الله أن الحب، كمفسّر للتاريخ، يقع ضمن هذه التفسيرات أوهو متضمن في كل منها على نحو ما، فهناك أحداث عظيمة التأثير في تاريخ البشرية لا يمكن تفسيرها إلا من خلال الحب، يقول: "فهل كان بين آدم وحواء غير الحب حين وقفا منفردين في مكان خال، وأدركا أن عليهما أن يعمرا طويلًا ليستطيعا الاستمرار ومقاومة الفناء؟ وهل كانت الجريمة البشرية الأولى حين بسط قابيل يده إلى أخيه هابيل إلا بسبب الحب، كما يرى بعض الشرّاح؟ وهل يمكن أن نفهم قصة يوسف النبي وعذابه في السجن دون أن نفهم الحب البشري الذي كاد يودي به إلى الخطيئة؟".

اقرأ/ي أيضًا: صادق جلال العظم.. تفكيك الحب

لم يكن الحب حاضرًا فقط كمفسر للتاريخ عند العرب فقط، بل كان كذلك عندهم وعند غيرهم من الشعوب. يذكر العلامة الدكتور عبد اللطيف أحمد علي أن أحد أسباب حرب طروادة التي قامت عليها أثقل الملاحم الأدبية "الإلياذة" لم تنشب- وفقًا لهوميروس- إلا بسبب هيلين الجميلة، التي تركت زوجها مينلاوس ملك إسبرطة وفرت مع الأمير الطروادي الجميل باريس، وقد هزمت طروادة في النهاية بعد مقاومة بطولية، وكانت هيلين تشارك في مجلس الدفاع وفي وضع خطط الحرب، فلما انتهت بهزيمة الطرواديين عادت هيلين مكرهة إلى زوجها ووطنها "غُفرت لها خطيئتها، وعاشت معززة مكرمة دون المساس بكرامتها وسمعتها".

في تلك الملحمة، يبرز الحب ليس فقط كمحرك لدوافع الشخصيات، بل كوسيلتهم لفهم المستقبل، فحين يقرّر هيكتور الطروادي أن ينازل أخيل ملك الإغريق تبذل أندروماك زوجة هيكتور كل وسيلة لتحول بين زوجها ومنازلة أخيل، لأنها تعرف عاقبة النزال فتقول له: "لخيرٌ لي أن أموت من أن أفقدك، فلن يبقى لي أي عزاء إن لقيت حتفك ولن يبقى لي شيء سوى الحزن". فيقول لها هيكتور في مشهد الوداع البليغ: "أنا لست قلقًا على ما قد يحل بالطرواديين بقدر ما أنا قلق عليكِ من أن يسوقك جندي وأنتِ دامعة العينين إلى ذل العبودية، وأتصورك في أرجوس تغزلين على المنول لامرأة أخرى، وتحضرين الماء من بئر غريبة وأنت مسلوبة الإرادة صاغرة مقهورة"، ويقول أيضًا: "كل من يراك باكية: ها هي زوجة هكتور الذي بز في الوغى كل الطرواديين، ولسوف ينتابك الحزن من جديد على فقدان رجل مثلي قد يخلصك من العبودية، ليتني أموت ويهال علي التراب قبل أن أسمع صراخاتك وهم يسوقونك إلى الأسر".

امرؤ القيس: هل قتله العشق؟

أما في تراثنا العربي فلا يمكن أن يكون الحب غائبًا عن أذهان المؤرخين، وهم يقرأون ما كُتب عنه في كتاب "التيجان" لـ وهب بن منبه، أو في المصادر الإسلامية عما قيل بين مدعيي النبوة، فهناك مصادر على وقارها لا تنكر الشعر الإباحي الذي قاله مسيلمة لسجاح حين عرض لها بالزواج، انظر لذلك مثلّا ما كتبه ابن الأثير في "الكامل في التاريخ".

وإذا اخترنا أنموذجًا مثل امرؤ القيس، فيما يسمى بالعصر الجاهلي، وهو شخصية أدبية لها وجود حقيقي سياسي واجتماعي، وخاض حروبا كبيرة ضد بني أسد لاستعادة ملك أبيه، فلا يمكن أن نركن العشق جانبًا ونحن نقرأ قصته، ففي العشق دور في حياته وفي إنهاء تلك الحياة، ولكن الحكاية في التاريخ لها ألف وجه.

لعل الأصفهاني كان الأكثر اعتدالًا في تصوير هذا الرجل الذي عاش حياته بكل ألوانها الزاهية والقاسية، فهو في إحدى القصص التي رويت عنه نصب كمينًا عند الغدير لابنة عمه عنيزة وصويحباتها، فلم يسمح لإحداهن أن تسترد ثيابها قبل أن يراها عارية، مقبلة مدبرة، ولكنه حين بلغه مصرع أبيه كان الوحيد بين إخوته الذي لم يجزع للخبر.

على الرغم من حبه الجارف لأبيه ورغبته للانتقام لأجله، كان امرؤ القيس معروفًا بغرامه بزوجة أبيه، هرّ بنت سلامة، بل يذكر بعضهم أن التشبيب بها كان السبب وراء غضب الأب عليه وإخراجه من مسكنه.

ويقوم الدكتور طاهر مكي في دراسته المهمة عن امرؤ القيس بالتأكيد على واقعة التشبيب بزوجة الأب بقوله: "إن من ينصب الشباك لابنة عمه عاشقًا، ويلاحق جارية أبيه متغزلًا، يمكن أن تقع عينه على زوجة أبيه مشتهيًا".

حين رحل امرؤ القيس إلى قيصر الروم يستنصره على بني أسد أعانه الرجل، حتى دُست الدسائس بينهما، لكن هناك تحليل آخر يقول أن طماح، الرجل الذي أوغر صدر القيصر تجاه امرؤ القيس ووشى بعلاقة بينه وبين ابنة القيصر، وهو أمر ينفيه تحول امرؤ القيس نفسه في تصديه لثأر أبيه، وفي ذلك يقول الدكتور طاهر أن امرؤ القيس كان عند قيصر، إذ يرى أنه "تقدمت به السن والتجربة، وأنه كان تحت قسمه، وأنه كان يتصدى لأمر جاد وخطير، ومن ثم تنتفي قصة عشقه لابنة القيصر".

الذبياني وعشق المتجردة

ولا زلنا في التراث العربي، حيث قصة النابغة الذبياني، الذي كان كبيرًا عند النعمان ملك الحيرة، وأنه كان من ندمائه، وأهل أنسه إلى أن وقعت الجفوة بينهما، ولجأ الذبياني إلى الغساسنة خصوم النعمان التقليديين إلى أن تصالحا فيما بعد.

يقال إن السبب في الجفوة كان ما قاله الذبياني في المتجردة زوجة النعمان، والتي كانت جميلة، وتُروى في التراث قصة طريفة عنها حيث قيل إن الذيباني التقى بها ذات مرة صدفة، فأربكتها المفاجأة حتى سقط نصيفها، وهو الخمار، ومن هنا كانت قصيدة: "أمن آل أمية"، التي صوّر فيها المشهد: "سقط النصيف ولم ترد إسقاطه/ فتناولته واتّقتنا باليدِ".

ويحدثنا الأصفهاني أن النعمان الذي كان دميمًا على عكس زوجه، سأل النابغة ذات يومِ أن يقول شعرًا في وصف المتجردة، فذكر له النابغة شعرًا يصف جسدها تفصيلًا، فغضب النعمان وثار، واتهمه بالترصد لزوجته. لكن محمد زكي العشماوي في كتابه عن النابغة أيضًا يرفض كل ذلك، ويرى أن السبب سياسي من الدرجة الأولى، فهو يرى أن الذبياني اتصل بالغساسنة ومدحهم بعد أن نادم النعمان، وصار عضوًا في حاشيته، وأن قصة المتجردة لا دخل لها في الأمر.

الحب ومقتلة البرامكة

من أهم المصادر التي تناولت "نكبة البرامكة" تعليلًا وتحليلًا، وهو مصدر "مشهود له باستقصاء الأوجه العديدة في المسألة الواحدة"، كتاب "الكامل في التاريخ"، إذ يقول: "في سنة سبع وثمانين ومائة، أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى، وكان سبب ذلك أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وأخته العباسة بنت المهدي، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، فقال الرشيد لجعفر: أزوجكما ليحل لك النظر إليها ولكن لا تقربها". وهذا الزواج الذي أريد له الرشيد أن يكون على ورق، أدى إلى ثمرة طبيعية، فولدت العباسة غلامًا، سيّرته مع حواضن إلى مكة خوفًا من الرشيد. "ثم إن العباسة حدث بينها وبين جواريها شر، فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد فحج هارون هذه السنة، وبحث عن الأمر فعلمه، وكان جعفر يصنع للرشيد طعامًا إذا ودعاه فلم يحضر عنده، فكان ذلك أول تغير أمرهم".

يبقى الحبّ مغلفًا لكل الدوافع البشرية، ويصلح أن يكون في حد ذاته جانبًا من الجوانب الإنسانية المهمة في تفسير التاريخ

لكن ابن خلدون لم يقبل هذا التعليل، وتناوله من جانب عرقي "عنصري"، فيقول بعد الاستفاضة في تمجيد شرف العباسة ومكانتها: "كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحى وتدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم؟"، ثم يسوق ابن خلدون الأسباب الحقيقية - التي يرى ورآها من بعده مؤرخون كثر-  التي كانت وراء مقتلة البرامكة.

اقرأ/ي أيضًا: عن الحب والاشتهاء في تراث العرب

يبقى أنه لا دليل يثبت أو ينفي زواج العباسة، ويذكر الدكتور محمد حسن عبد الله أن مسرحية عزيز أباظة عن العباسة تذكر قصة هذا الزواج وتحدد اسم الغلام بحسين ثمرة له، أما أمير الشعراء في مسرحيته "قمبيز" فقد جعل الحب عقدة الحكاية برمتها مما جعل العقاد ينقده نقدًا شرسًا.

في النهاية، يبقى الحبّ مغلفًا لكل الدوافع البشرية، ويصلح أن يكون في حد ذاته جانبًا من الجوانب الإنسانية المهمة في تفسير التاريخ، دون إقصاء المنطق، بل ربما وُجد المنطق في الحب أكثر مما وُجد في غيره.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العري في الفن.. هاجس إنساني عابر للتاريخ

ركن الورّاقين: خزائن الجنس والشهوة