08-مارس-2019

من الاحتجاجات السودانية الأخيرة (رويترز)

فكرة الكتابة عن الديمقراطية عمومًا، لشخص مثلي عاش كل حياته تحت ظل سُلطة عسكرية، تبدو مثل إلقاء نكتة عن الموت، لأنها تجربة مُتخيلة برمتها لأبناء جيلي، وهي تقريبًا أقرب إلى كتابة الروايات، أو عودة أبناء آدم السوداني إلى جنة الديمقراطية المشتهاة.

ما يجري في بلادنا مسرحية رديئة الصنع ومحاولة لشراء الوقت، فلم نسمع أن حزبًا حاكمًا استيقظ ضميره فجأة وتنازل للناس عن مكاسبه

عندما بدأت مارشات حكومة الإنقاذ بقيادة الضابط عمر البشير تعزف موسيقاها العسكرية، حينذاك كنت في السابعة من عمري، عالقًا في رداءٍ قصير، وكانت تشدني عبر المذياع الخشبي فواصل عسكرية: "أيها الشعب السوداني البطل، إن قواتكم المسلحة..."، لكنني لم أدرك إطلاقًا كيف أن حقوقي في الاقتراع الطبيعي سوف تظل حبيسة الأشواق لنحو 30 عامًا.

اقرأ/ي أيضًا: الآباء القتلة.. كل عام ترذلون

لقد عشت طويلًا على ما يبدو، وانتهى بي الحال إلى "زول" غالبًا ما تأخذ الأشياء الحكومية عنده منحى سلبيًا، من غير تجنٍّ على أحد، ولذلك آمل في تجربة آخرى كنوع من التغيير على الأقل، ولا يضيرني أيضًا أن أعبر عن شعوري بالضياع والملل جراء هذا العرض الهزلي المتكرر لانتخابات محسومة سلفًا لمرشح الحزب الحاكم، خاصة وأنني لا أعرف نظامًا شموليًا خاض منافسة سياسية وخسرها، وهذا يعني بالضبط أنهم حريصون على استيفاء الإجراءات الانتخابية فقط، وليس المغزى العميق للتجربة، في حين أنهم يستطيعون الحكم بالطوارئ دون أعباء إدارية!

ما يجري في بلادنا وغيرها، مسرحية رديئة الصنع، ومحاولة لشراء الوقت؛ فلم نسمع بحزب حاكم استيقظ ضميره فجأة ونهض من فراشه الدافئ ليؤذن في الناس، ويسقيهم الحليب والعسل، ويتنازل لهم طوعًا عن مكاسبه المادية، لكنه سيفاوض ويحاور ويراوغ، وهو ذات المعني المماثل لعبارة جورج أورويل: "إذا أردنا أن نحكم وأن نستمر في الحكم، فيجب أن نكون جديرين بتشتيت معنى الحقيقة".

ومن سخرية الأقدار أنه عندما أتيحت لي فرصة التصويت في الانتخابات قبل الماضية، قلبت قائمة المرشحين، ووجدت من ضمنهم محمود حجا، وكنت أعتقد أن هذه البلاد تستحق أن يحكمها جحا، ليس لأنه صاحب برنامج بديع يلبي أشواق الجماهير، لكنها من فرط العجائب والكوميديا السوداء، فلم ينقصنا سوى أن يعتلي سُدة الرئاسة جحا، لا كما هو في قائمة المرشحين المستقلين، وإنما ذلك الشخص الفكاهي القابع في ذاكرة الأدب العربي، ولأن العرض السياسي في صورته النهائية هزليًا كما يبدو.

زيارة خاطفة للتاريخ سوف نكتشف حجم الكارثة الوطنية، إذ حصل السودان على استقلاله من بريطانيا في عام 1956، وتكونت حكومة ديمقراطية، لكنها سرعان ما سقطت تحت حذاء الجنرال إبراهيم عبود في تشرين الثاني/نوفمبر 1958 واستمر عبود في الحكم حتى أطاحت به ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1964، وجاءت تجربة ديمقراطية ثانية لمدة خمسة أعوام، أجهز عليه جعفر نميري الذي قضى في السلطة 16 عامًا. 

ومرة أخرى عادت الديمقراطية بعد هبة أبريلية، انتصرت فيها الإرادة الشعبية لنحو أربعة أعوام، ولكن للأسف شيّعها الزعيم الراحل الشريف الهندي من داخل البرلمان بعبارة لاذعة: "هذه الديمقراطية لو خطفها كلب لما قال له أحد جر". وهنا أصبح المسرح ملائمًا لانقلاب عمر البشير.

خلال 63 عامًا من عمر الدولة الوطنية الحديثة، كانت الدائرة الشريرة هي الأوسع انتشارًا وإحكامًا على رقاب السودانيين، حيث نجح العسكر في الاستيلاء على السلطة ثلاث مرات، وقضوا فيها 53 عامًا، بينما تنعمنا بالديمقراطية لعقد واحد فقط، وبشكلٍ يمكن أن نجتر معه يأس أنصار التجربة القصيرة الحزينة، أي ما فعله الديمقراطيون بالديمقراطية.

في كتابه "الديمقراطية في الميزان"، نجح رئيس الوزراء الأسبق والزعيم السوداني محمد أحمد المحجوب، في التعبير عن المشكلة السياسية. وكان الرجل يؤمن بالديمقراطية إيمان العجائز، كونها البديل الأمثل لإدارة الشأن السوداني. وقد أدرك باكراً في سفره العزيز، قائلًا إن "الدكتاتورية تحدث خللًا في الإنماء، وقد ثبت ذلك في السودان خلال فترتين حكم فيهما العسكر"، دون حاجة لتكبد مشاق تجربة أخرى حالية لم يشهدها المحجوب، ويكفي أن الناس ثاروا عليها.

لكن المحجوب ربما بدا مشفقًا وهو ينظر للصادق المهدي في عمر صغير وهو يريد تطويع الحكم له ديمقراطيًا عبر طائفة الأنصار، مطبقًا باسم "الأغلبية" على الانتخابات، مع سيرة كثيفة الظلال، كونه أصغر رئيس وزراء سوداني، تجلى في حقبتين، نهاية الستينات ومنتصف الثمانينات. ولذلك عندما سئُل المحجوب عن المهدي بعد تسنّمه سدة السلطة أول الأمر، أجاب بجملة ساخرة عميقة: "لا أريد أن أفسد عليه بهجة يومه هذا".

وخرج المحجوب أيضًا شاهرًا مقولته في وجه النميري وعبود: "أن يطلب المرء من عسكري أن يكون رجل دولة؛ لهو أشبه بأن يطلب من محامٍ أن يجري عملية جراحية في الدماغ". وأفاض بأن للجيش أدواره الوطنية مناط التكليف، فحيثما استولى على السلطة كانت النتيجة الضياع والقلق والفقر في جميع نواحي الحياة، والإكراه والقمع.

لابد أن نتعلم من التجارب ونأخذ العبرة من التاريخ، بتحصين الديمقراطية المقبلة بالوعي وسيادة القانون وحرية الصحافة

وبما أننا نشتهي ونسعى للعودة إلى جنة الديمقراطية، فلا بد أننا في حاجة للتعلم من التجارب، وأخذ العبر التاريخية على محمل الجد، من خلال تحصين الديمقراطية المقبلة بالوعي وسيادة القانون وحرية الصحافة، عوضًا عن استيفاء أشكالها الفارغة، وعودتها مكبلة فوق خيول الطائفة والقبيلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 البشير يقمع سلمية تظاهرات السودان بالرصاص والتخوين

انتفاضة شباب السودان.. تكريسة جيل يتخطى القهر