25-أغسطس-2018

جدارية للفنان المكسيكي دييغو ريفيرا

ربما يكون اصطلاح "الدولة العميقة" من الأكثر تداولاً، بعد "الأخبار الكاذبة"، في فضاء النقاش السياسي والإعلامي خلال السنوات الأخيرة. بشكل خاص مع وفرة كرنفالات تلفزيون الواقع التي اصطحبها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معه لتمسي سمة سياسية طاغية. أي الاستعراض الفانتازي بمباركة ستيف بانون الذي أسس لمثل هذا الفهم في إدارة ترامب قبل أن يتم التخلي عنه دون التخلي عن إرثه العقائدي. في حين يمكن القول مبدئيًا أن المصطلح/الكياني، أي الدولة العميقة، يشكل أخطر نقيض للديمقراطية الليبرالية بنسختها "المعولمة" المطبقة والنظرية على السواء. هذا أن الديمقراطية الليبرالية وتسيير الحلبة السياسية وفق "قواعدها" في البنى السياسية الغربية الحديثة تشهد حالة إقصاء لأهم عناصرها، أي الشعب/الديموس.

تنتفي الحاجة  في الدكتاتوريات السلطوية لتعقيدات فهم الميكانزمات الخفية للسلطة، كونها تمارس الهيمنة الثقافية والسياسية ومعهما الاقتصادية جهارًا

في الوقت الذي ينظر فيه إلى علة الديمقراطية الأثينية بما عانته من قصور عدم تمثيل فئات شاسعة من المجتمع/الشعب، النساء والمهاجرين والعبيد ومن لا يملكون. وفي الوقت الذي أقصي السواد الأعظم من الشعب من التمثيل الديمقراطي عبر أحد أهم و"أجمل" النصوص السياسية التي عرفها العالم، إعلان الاستقلال التالي للثورة الأمريكية، إذ جاء في فقرته الثانية أن مهمة الحكومة المنتخبة أن تضمن الحفاظ على الحق في الحياة والحرية وأقصى حدود السعادة. لكن علته كانت بأن كفالة هذه الحقوق وضمانها ليس إلا للذكور البيض الذين يملكون، أي أن لا نساء ولا عبيد ولا هنود حمر ولا خدم بيض يمكن لهم ادعاء الأحقية بهذه الكفالة التعاقدية. لكن السؤال المركزي، هل تجاوزت الديمقراطيات الليبرالية هذه العقد والإقصاءات اليوم؟ أم فعلًا أمست الديمقراطية مجردة إلا من مسرحيات التصويت المؤلفة عبر ماكينات دعائية حزبية وبنكية!

اقرأ/ي أيضًا: مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل

يمكن الادعاء أن الاصطلاح نفسه شهد نقلات هائلة في شكل استخدامه ونوع الاعتماد عليه، دعائيًا أو تحليليًا. من وصف حالة "التضامن"/التكالب المصلحي الشبكي قضائيًا وعسكريًا رفقة البنية الاستخبارية والإعلامية بما يخدم هذه الشبكة من بيروقراطية راسخة كفعل ماض في دول مثل باكستان ومصر وتركيا إلى واقع معاش ومعمم على ضفتي الأطلسي في الديمقراطيات الليبرالية المعاصرة يستخدم الديمقراطية البرلمانية لتغليف واقع الإدارة السلطوية لاستراتيجيات الحكم. ما تمثله الديمقراطية هنا من فائدة ليس إلا حالة "شرعنة" لحقيقة أن الناس خارج دائرة الحكم، وفي أبعد المسافات عن الإسهام في صنع القرار.

لا يأتي استثناء دول كثير من بشاعة التجريب الاصطلاحي للدولة العميقة إلا من باب أن هذه التجارب لا تحتاج لمثل هذا الغموض السلطوي، فلم يكن بول بوت أو جوزف ستالين يتحرجان في هندسة مصائر البشر وفق إرادتهما، كما لا يتورع اليوم عبد الفتاح السيسي أو آل سعود أو بشار الأسد عن ذلك. دون أن تستشعر هذه البنى أدنى حاجة للتلوين أو التمويه، إذ لا يلزم أن يكون الإنسان عالمًا سياسيًا أو منظرًا فكريًا لإدراك أن في الدكتاتوريات السلطوية التي يمكن رصدها بالعين المجردة تنتفي الحاجة لتعقيدات فهم الميكانزمات الخفية للسلطة كونها تمارس الهيمنة الثقافية والسياسية ومعهما الاقتصادية جهارًا، إذ من الوارد أن لا تلتقط صانع القرار الحقيقي، لكن الآلية تبقى جلية، على عكس الفهم الأولي لآليات الدولة العميقة الملحمية، حيث لا يعرف أحد ماذا قرر ومن قرر وكيف. بينما وفي حالة أكثر تعقيدًا، إسرائيل الاستعمارية بما تتضمنه من فصل عنصري ممنهج أيضًا، يتم الارتكاز فيها على القوى الناعمة المؤسسية للدولة بما يفوق الارتكاز على ما يمكن وصفه دولة عميقة، على الرغم من ضرورتها وفاعليتها في حالة إسرائيل. وهنا يستكفى بمعطى أن الموازنة الإسرائيلية تخصص لمخابراتها، شين بيت وشاباك وموساد، ما لا يتجاوز الـ3 مليارات دولار أمريكي سنويًا، بينما يفوق إنفاقها على الثقافة والحملات الإعلامية 10 مليارات دولار سنويًا.  

من الأدوار الأساسية التي تضطلع بها الدولة ما يتركز في احتكار القوة والعنف وإنفاذ العدالة دستوريًا، وهذا ما يفترض أن الشعب يقرر بشأنه في الحالة الديمقراطية. لكن يبدو أنه لا يفعل. فالمسألة بشأن الدولة العميقة لم تعد تحصر بمن يديرون الشأن السياسي أو في حكومة الظل أو الدولة الموازية، بل تداخلت فواعل أخرى معهم في إنتاج التصورات وتحديد الأسعار وصناعة العملة وتعميم المضاربات وتسيير السوق وخصخصة العديد من مهمات الدولة والتزاماتها تجاه الصالح العام. بل أيضًا لهذه الفواعل، محلية ومعولمة، إسهام حاد في تصنيع الذائقة والإرادة العامة. هذا ما تقوم به الدولة العميقة عبر الدولة أو أثاث الدولة وديكورها في الحالة الناجحة للظل الموازي للدولة، لكن في حالات فشل الدول العميقة، وهنا لا يدور الحديث عن حالات الدولة الفاشلة كليبيا أو الصومال، بل عن فشل الدولة العميقة في هذه المرحلة المعقدة من الضبط والتحكم، تجدها تلقائيًا تلجأ لما هو أكثر وضوحًا، أي للإطار العسكري، انقلابات وثورات مضادة وحكم طوارئ، كالحالة المصرية في رد الدولة العميقة على مفرزات ثورة 25 يناير مثلًا.

تعبر الدولة العميقة عن "مؤامرة" خارج النسق الكلاسيكي الممجوج للحديث عن نظرية المؤامرة، فهي مؤامرة تتخطى اللحظة بطبيعتها دون خطة تآمرية أو مخططين

إذًا، ولفهم الدولة العميقة أكثر، تستدعي الحاجة المقاربة بالعلوم الطبيعية، ربما تكون الجيولوجيا الأكثر إسعافًا في هذا الاتجاه. بما معناه، أن حالة فهم الزلازل والظواهر التكتونية التي تشهدها قشرة الأرض، تستدعي الحفر أعمق فيما تحت القشرة من طبقات لسبر ما لا تلتقطه العين العارية. وهنا يبدأ الحديث عن أهم أدوار الجمهور/الشعب للإبقاء على حالة معقولة من المعرفة بمكنونات واقعه والعوامل التي تصنعه. بشكل خاص أن الفهم الليبرالي المعمم اليوم بشأن الدولة، أنها حصن منيع فيه فصل واضح وصارم بين الفضاء العام والفضاء الخاص، بين أدوار الدولة وأفعال السوق، لكن الواقع بمجمله على خلاف هذا التصور الأوتوبي. إذ تختلط السلطة بالثروة اليوم، كما دائمًا، ولا يمكن تصديق الادعاء الذي يقدمه أهل الاقتصاد الأكاديمي "الرسمي" عن الفصل بين إرادة السوق وإدارة الدولة. هذا الادعاء إنما يسقط بمجرد التفكير في بنية وواقع مجتمعات الشركات الكبرى الفاعلة، حتى معرفيًا، في عالم اليوم. إذ لا يتعدى واقع المجتمع في قرية/عالم جوجل أو مايكروسوفت أو فيسبوك في وادي السليكون كونه نسخة ملونة من الاتحاد السوفييتي، ونسخة غير بريئة من العلاقة بمجتمع السلطة والاستخبارات يشهد فيها مجتمع مركزي التخطيط واقتصاد مركزي التخطيط وهرمية "مقدسة". وهذا ما يمكن التدليل عليه عبر طبيعة التعاون بين هذه البنى، مثل جوجل وجنرال موتورز، وبنية الدولة المعرفية والعسكرية. هنا يضعف الجدل الليبرالي الأوتوبي عن الفصل "الصارم" بين السوق والدولة، وهنا أيضًا تضعف حدود تعريف أدوار الدولة لتتضاعف من الموضع ذاته الحدود التي يمكن للدولة العميقة الفعل عبرها. ونتيجة غير مكيانيكة بالضرورة لطبيعة دور هذا السوق العابر للقومية، فإن الدولة العميقة تتخطى حدود الدولة الأمة/الحدود القومية، لتصبح فاعلًا معولمًا سواء عبر السوق ومجتمع الاستخبارات مباشرة، أو من خلال البنى الدولية كمؤسسات من نوع الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي.

اقرأ/ي أيضًا: الإمبريالية وسوق العالم.. الوحش الذي "يداعبنا"

وعليه، يمكن القول أن الدولة العميقة على تباينها عالمثالثيًا، إلا أنها في حالة المشهد المركزي، أي في الديمقراطيات الغربية تعبر عن حالة صلبة غير محددة التصميم بالضرورة. متعديًة ذلك لتكون "مؤامرة" خارج النسق الكلاسيكي الممجوج للحديث عن نظرية المؤامرة، فهي مؤامرة تتخطى اللحظة بطبيعتها، مستفيدة من عدة محاور تأمرية بسيطة وواضحة، دون ضرورة لوجود متأمرين، أو نسخة لرجل مسن بدين وأنيق يدخن السيجار الكوبي ويمج الويسكي الاسكتلندي الفاخر في حجرة مظلمة ويصادق على الخطط. إنما هي حالة تواطؤ ضمنية بين فواعل أساسية تمارس فعلها بما هو أقرب لشبكة تضامنية من الكسل الصحفي والاستعراض الإعلامي والقصور السياسي والمعرفي رفقة مصلحية متفاقمة لشبكات الثروة والسلطة وإعادة إنتاج لمجمل مصفوفة الهيمنة دون ضرورة لوجود عملاء متخصصين وواعين لعملية إعادة الإنتاج والتعميم. تمامًا بما يشبه مفارقة التطور الدارويني كتصميم نموذجي مذهل دون أي مصمم. وهو ما يشبه أيضًا توصيف العبقري الاقتصادي آدم سميث بشأن السوق القادر على إفراز آليات تسعير ديناميكية دون وجود من يتدخل بصناعة هذا التسعير بالشكل التقليدي. لذلك يمكن القول بأن ما الدولة العميقة إلا خط إنتاج فوردي متعدد العناصر والفواعل، بوعي ودونه، من بيروقراطية اعتيادية وعسكرية ومجهودات إعلامية وتنظيرية يقوم كل عامل محطة عبر هذا الخط بما يعتقد أنه الأفضل، وبما يضمن استمراريته هو نفسه في أداء وظيفته، دون أن يكون وجود لمظلة تنسيقية كبرى بين كل هؤلاء.

 لم يقم الاستراتيجي الأبرز بين رجال ترامب، ستيف بانون، بما هو أكثر من إعادة إنتاج لما فعلته الفاشية الرومانية والهنغارية وموسوليني كما جوزف غوبلز بشأن نقد الدولة العميقة والأخبار الكاذبة

ما يتم اليوم، وبشكل أساسي على يد دونالد ترامب، بشأن الدولة العميقة والأخبار الكاذبة ومجمل هذا النقاش، لا يمكن نعته بأنه آلية مستحدثة. لكن هذا لا ينفي خطورته العبقرية. إذ وبالعودة لتأسيس ستيف بانون للهجوم على الإعلام بداعي الأخبار الكاذبة وتجاوز الدستور ومؤسسات الدولة بدعوى استعداء "الدولة العميقة"، لم يقم الاستراتيجي الأبرز بين رجال ترامب بما هو أكثر من إعادة إنتاج لما فعلته الفاشية الرومانية والهنغارية وموسوليني كما جوزف غوبلز في ألمانيا هتلر، كل ما اجتهد هؤلاء بفعله كان الإفادة من الدولة العميقة والإعلام الكاذب والبروباغندا وعديد ظواهر أخرى عبر الهجوم عليها. أي ولمتابعة واحد من خطابات غوبلز يمكن التقاط أكثر من 60% من مجمل ما يقول وتصنيفه ضمن النقد الحاد، وإن بلهجة شعبوية صارخة، لكل ما يمثله الرجل.

في عالم اليوم المرتاب والمهووس بشعبويته لا يقوم ترامب ورجاله بهذه المهمة فقط، فيخرج ذراع ترامب الأيمن أوروبيًا، ماتيو سالفيني متحدثًا ملء فاه عن الكومورا وحكم الكوزا نوسترا الموازي/ المافيا الصقلية، بينما يتلقى تمويلات عبر بنوكهم، وتعبر مارين لوبان عن سخطها واستعدائها للاتحاد الأوروبي بينما تمول تحركاتها عبر تمويله البرلماني، بل والاختلاس منه أيضًا، كما لا يقوم إمانويل ماكرون بما هو أكثر من انتقاد اليمين بلهجة اليسار منفذًا أخطر أجنداته بشأن الإمبريالية الفرنسية وراء البحار مثالًا.

ختامًا، ما يمكن تلخيصه يقول بأن الدولة العميقة قائمة وفاعلة، بمشيئة رفاهية النقاش المؤامراتي العقيم وبدونها، لكن الأهم والأخطر في آن معًا أن لا أحد تعلم الدرس، يتم تعميم ذات آليات حرب الهيمنة التي اتبعت ما بين الحربين العالميتين، وأثناء الحرب الباردة كذلك، دون حالة فهم تفكيكي نقدي فاعل. لكن ومع كل ذلك، فالارتياب العصابي لن يوصل إلى أي مكان، دون فهم وفعل متسقين بمنحى لا سلطوي إنساني يساري ليبرالي متنوع وجامع يتعاطى مع مثل هذه الكوارث بوصفها أوبئة كونية سيبقى طحن الماء مهمة من مهمات الكسل الكوني المتفاقم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 المانيفستو في ضيافة القرن 21

العصا وسنغافورة.. خديعة فلسطين الكبرى