04-أغسطس-2018

جولة لترامب في مواجهة الصحافة (Getty)

هل يمكن القول أن الصحف والمنصات الإعلامية الكبرى في العالم، ليبرالية وبديلة، التهت وانشغلت عن قضايا حاسمة ومركزية عبر انشغالها بحفلة جنون دونالد ترامب المستمرة والممتدة؟ ربما يمكن الرد بالإيجاب دون تبحر كثير في التفكير بالأمر، إلا أن تفسيره يبقى ضروريًا، على أقل تقدير في ضوء أن ترامب لا يقدم استعراضًا جنونيًا للصحافة بقدر ممارسته لهذا العته بحقها.

الصنعة الصحفية في زمن ترامب، بكل أدوارها، في خطر، وليس مؤسسة من مؤسساتها أو اتحاد أو رتل من الزملاء الصحفيين فقط

لا يمكن إنكار حالة الشعور بالعزلة والقلق والحصار التي نشأت أمريكيًا في الأوساط الصحفية غير اليمينية وغير البيضاء على تنوعها وتناقضاتها. كما هو عالم السايبر "المفتوح" يتيح للمعلومات والأفكار بأن ترشح عبر الشبكة المعلوماتية، كذلك الحال للحمى وكل ما تتعرض لعدواه الصحافة. إذ أن الجو "الترامبي" لم يعد يختص بمراسلي البيت الأبيض أو الصحافة الأمريكية بمجملها حصرًا، بل هو أقرب لأن يكون عدوى كونية. أهلًا في زمان عدوى الحمائية البيضاء والطهورية العرقية غير الملطفة.

اقرأ/ي أيضًا: جوليان آسانج.. صحافي نادر على طريقته

ما تقوله هجمات الرئيس الأمريكي، المتحرش والمزور والعنصري المعتوه، دونالد ترامب الاستراتيجية والمبرمجة على الصحافة والعاملين فيها لا يقف عند حدود الوصم. يجهد ترامب في وصم الصحافة بفذلكات الأخبار الكاذبة حينًا، وفي حين آخر بتمثيل الصحافة كأنها عدو الشعب الأول، كأن ليس هو نفسه عدو الشعب/الشعوب. وفي ركونه لاصطلاح "عدو الشعب" إنما يسيء لجمالية الرائعة السينمائية "Public Enemies" بنسختيها، الكلاسيكية والديجتالية المحدثة. إذًا ليس الوصم ما يشغل بال ترامب، بقدر ما ينشغل بضرب أساسات الصنعة الصحفية ونزع دور الفاعل السياسي/الاجتماعي عنها. بل طردها خارج حظيرة الشأن العام والدور المعول عليه في الفضاء المدني والمديني، عالميًا وليس أمريكيًا فقط.

مع مثل هذا الشكل والحجم الهائل من التعاطي الاستعدائي والهدام مع الصحافة، لا متسع لإنكار فعاليته، فلا ينفع الإنكار في إخفاء الديناصور المتنمر. يمكن للمتابع اليومي الاعتيادي لأي من طيات الصحف الأمريكية أو الأوروبية ذات الطبعات  الدولية تلمس عمق أزمة شل القدرات التي شنها دونالد ترامب وحوارييه على الصحافة، استنادًا على الإرث الاستراتيجي للمستشار المخلوع ستيف بانون. حتى أمست كبريات مقاعد التحرير في صحف عريقة بحجم الواشنطن بوست مثلًا منشغلة بالدفاع عن نفسها  وتبرأة ساحتها وكسر الحصار عليها  أكثر من انشغالها بالمعلومة المقدسة والتعليق الحر. أي أكثر من التفاتها للمقولات الصحفية الكلاسيكية المؤسسة.
يبدو أن ما اتخذته الواشنطن بوست، بما أن المثال قد حضر، شعارًا أنيقًا وفعالًا لترويستها  ‘Democracy dies in darkness’ انتقل من مساحات الهوية الأوتوبية إلى حلبات الكباش الواقعي، فأي ظلام أحلك من الذي يبثه ترامب، وأي موت للديمقراطية أجلى من وصول ترامب للسلطة، بالانتخاب!، والانتظار سيد الموقف بشأن وصول مارين لوبان واستمرارجونسون وماي ورينزي وماكرون وغيرهم في السلطة مستفيدين من قابلية العالم المقيتة للاستعباد والاغتراب.

في الوقت عينه، لا يمكن إنكار المجهودات الجبارة التي بذلتها صحف عدة، خاصة في الولايات المتحدة، في تناولها وتوثيقها لعمق الكوارث الترامبية، بيئيًا وصناعيًا وسياسيًا وحقوقيًا، بل وصحفيًا أيضًا. لكن هذا لا يعني بالضرورة تجاوز الخمار المزمن الذي أسس له ترامب، بل صعده لمصاف أن يكون عقدة قائمة وهلوسة مستمرة. حالة الدفاع عن النفس التي حشر ترامب فيها الصحافة من الخطورة إلى الحد الذي يدفع بالاعتقاد أن المهمات الصحفية الأساسية تعطلت فعلًا، وإن لم تتعطل فتم الانشغال عنها عبر سيرك الاستعراض الفاجر لترامب وفريقه ودعائييه.

ما يجر الانتباه أكثر من النجاح الترامبي في تعطيل المشرط الصحفي، هو مكامن الضعف والزوايا الحرجة للأداء الصحفي إجمالًا. إذ أن المهمة الصحفية، الأكثر مهنية والأعمق أخلاقيًا، المطالب بها اليوم أبعد من الانشغال بالمانشيت الأكثر مبيعًا أو التسريب الأبكر والتحليل الأكثر توفيقًا. عندما يصب ترامب شعوذاته ضد الصحافة إنما يستدعي وقفة واجبة وضرورية ممركزة وموحدة دفاعًا عن العمل الصحفي أكثر منها دفاعًا عن صحيفة ما أو إرث صحفي بعينه.

الصنعة الصحفية برمتها، بكل أدوارها، في خطر، وليس مؤسسة من مؤسساتها أو اتحاد أو رتل من الزملاء الصحفيين فقط. بشكل خاص وضروري، إن تناول الفضائح الترامبية والخطابات الوقحة المفضوحة لترامب ليس ما يؤلم أو يؤثر في سير ماكينة بروباغندا ترامب، فترامب الفاضح لكن ترامب المفيد في عين اليمين الحمائي والغوغاء البيضاء لا يحرجه السمعة القذرة التي يتسبب بها ما دام سائرًا في تلويناته المصلحية، التي حتى الآن يبدو أنها ستضمن له فترة رئاسية أخرى، رغمًا عن النجاحات المهمة التي حققها الأعداء الطيبين لترامب على مستوى المقاطعات والولايات الأمريكية خلال هذا العام، الاشتراكية الديمقراطية، أنيقة الأداء والخطاب،  الكسندرا أوكازيو كورتيز والإرث النضالي لـبيرني ساندرز الذي يعطي مفاعيل بعيدًا عن البر الأبيض المستهيج  ببرتقالية دونالد ترامب مثالًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:        

ساندرز: ترامب استفاد من الغضب ضد مؤسسات الدولة

بيرني ساندرز في مواجهة الفصل العنصري.. سيرة غير مروية لمناضل أتقن التواضع