الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية، وهو يخص عملة القطاع العامّ، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ويخص عملة القطاع الخاصّ، إضافة إلى الصّندوق الوطني للتأمين على المرض، هي الصناديق الاجتماعية في تونس، وهي تعيش عجزًا ماليًا منذ سنوات، تفاقم في خضم الأزمة الاقتصادية للبلاد، حتى بات الحديث عنها يتراوح بين إفلاس غير معلن لها وحتميّة القيام بإصلاحات جذرية لإنقاذها.
عجز متراكم والأسباب متعدّدة
بلغ عجز الصناديق الاجتماعية الثلاثة في تونس، وفق آخر الأرقام، 1000 مليون دينار، أي حوالي 500 مليون دولار أمريكي
بلغ عجز الصناديق الاجتماعية الثلاثة، وفق آخر الأرقام، 1000 مليون دينار، أي حوالي 500 مليون دولار، وهو ما فاقم بالتتابع العجز في التوازنات المالية للدّولة. وقد بدأت المؤشرات السلبية لهذه الصناديق منذ عقد على الأقل حيث حذّرت حينها الأطراف المعنيّة، الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر المنظمات النقابية في البلاد، من تواصل العجز الهيكلي المسجّل، الذي شهد تفاقمًا بالتوازي مع انخفاض نسب النموّ بعد الثّورة.
وتتعدّد، وفق مختصّين، أسباب هذا العجز ومنها ارتفاع أعداد المنخرطين المُحالين للتقاعد المبكّر فقد بلغت نسبة المحالين على التقاعد المبكّر، أي قبل سن الستين، في القطاع العمومي قرابة 60 في المئة من مجموع المحالين على التقاعد. كما شهد مؤمل الحياة عند الولادة في تونس ارتفاعًا ليبلغ 74 سنة وهو بقدر ما يمثّل مؤشرًا إيجابيًا بقدر ما يثقل الأعباء المالية للصناديق الاجتماعية مع ارتفاع نسبة التهرّم السكاني.
وتوضع الخيارات التنموية في قفص الاتهام حيث أدّت وفق مختصّين لصعوبات في الإدماج المهني كما تتعدّد المؤسسات الاقتصادية المديونة لدى الصناديق الاجتماعية، التي لم تستخلص ديونها. وذلك بالإضافة إلى محدودية مصادر تمويل هذه الصناديق التي تقوم أساسًا على مساهمة الأجراء والمؤجرين، حيث تبقى هذه المساهمات رغم الترفيع الطفيف فيها في السنوات الأخيرة محدودة، خاصة مع ارتفاع نسبة التغطية الاجتماعية في تونس التي تشمل محدودي الدّخل بصفة هامّة. كما يشكو الصندوق الوطني للتأمين على المرض من ارتفاع الفواتير الوهمية التي تؤدي لحصول المنخرط على أموال بطريقة غير قانونية.
اقرأ/ي أيضًا: الاحتجاجات الاجتماعية في تونس.. عود على بدء؟
الحلول.. بين الترقيعية والجذرية
ساهم ارتفاع نسب المحالين على التقاعد المبكر ومؤمل الحياة عند الولادة في إثقال الأعباء المالية للصناديق الاجتماعية في تونس
تحدّث وزير الشؤون الاجتماعية مؤخرًا عمّا أسماها سخاء جرايات التقاعد، مشيرًا إلى أن الجراية "مبنية على أحسن سنتين في الحياة المهنية للشخص والحال أنه في فرنسا تكون الجراية وفق 25 سنة من العمل". ويطرح الوزير بذلك مراجعة هذه الجرايات بما أنها محدّدة بحسب الوظيفة وليس بحسب القدرة الشرائية ومؤشر الأسعار.
ويرفض اتحاد الشغل من جهته مراجعة جرايات التقاعد داعيًا إلى تبنّي إصلاحات جذرية. وفي هذا الجانب، يقترح الاتحاد تنويع مصادر تمويل الصناديق الاجتماعية باقتطاع نسبة من الجباية لصالحها وخاصة الجباية على السجائر. كما يدعو إلى تحسين الحوكمة الرشيدة في الصناديق الاجتماعية وسنّ خارطة صحيّة عادلة للحفاظ على توازناتها. وحذّر مختصّون من انتهاج حلول ترقيعية غير جذرية، تكون آثارها محدودة في الزمن ولا تضمن ديمومة السير العادي للصناديق الاجتماعية.
ومن أهمّ الإصلاحات المتداولة والتي تمّ الانطلاق فيها هي الترفيع في سنّ التقاعد. ويأتي الاعتماد على حل الترفيع في سن التقاعد على ضوء نتائج دراسة قامت بها وزارة الشؤون الاجتماعية حول إمكانية تجاوز العجز المالي في أفق 2020 في صورة قبول 50 في المئة من الموظفين التقاعد في سنّ 65 سنة، (حاليًا 60 سنة).
اقرأ/ي أيضًا: "إعلان تونس للتشغيل".. أما بعد؟
الترفيع في سنّ التقاعد.. سؤال حرية الاختيار
يمثّل هذا الحل نقطة خلاف بين الحكومة من جهة واتحاد الشغل من جهة أخرى حول إلزامية الترفيع في سنّ التقاعد من عدمه. وفي استبيان أجراه المرصد الوطني للضمان الاجتماعي (حكومي) يرفض 74 في المئة من الأعوان والإطارات الترفيع في سن التقاعد. وقد عملت الحكومة في مرحلة أولى على إشراك الاتحاد في إعداد مشروع قانون للغرض ليتمّ التوصّل لصيغة توافقية مع وزير الشؤون الاجتماعية السّابق لم يتحمّس إليها الوزير الجديد.
وبموجب المشروع الأولّي المقترح، يكون الترفيع في سن التقاعد اختياريًا وليس إجباريًا. حيث يظلّ سن التقاعد المحدّد بـ60 سنة كقاعدة مع إمكانية الترفيع اختيارًا إما بسنتين أو بخمس سنوات على أن يقع ممارسة حق الخيار، غير القابل للمراجعة، قبل سنتين من بلوغ سنّ التقاعد الأصلي.
غير أن هذا المشروع الذي تمّ الإعلان عنه لم يتحمّس إليه الوزير الجديد للشؤون الاجتماعية في مرحلة ثانية، حيث قدّمت الوزارة تصوّرًا جديدًا أمام اللجنة البرلمانية ذات العلاقة يجعل من الترفيع بسنتين في سنّ التقاعد إجباريًا فيما يبقى اختياريًا بخصوص التّرفيع إلى خمس سنوات. وهو ما اعتبرته المنظمة النقابية نكوثًا عن الاتفاقيات السابقة مهدّدة بتقديم شكوى ضدّ الحكومة أمام منظمة العمل الدولية.
وبذلك يتواصل الجدل حول الترفيع في سنّ التقاعد مع تأكيد مراقبين بأن هذا الإجراء لن يكفل إنقاذ الصناديق الاجتماعية وانتشالها من عجزها المالي خاصة مع كلفة هذا الترفيع على سوق الشغل في بلد يعاني نسب بطالة مرتفعة. وليبقى بذلك ملفّ عجز هذه الصناديق حجر عثرة تتناقلها الحكومات منذ ما قبل الثّورة في انتظار خطة إنقاذ شاملة.
اقرأ/ي أيضًا: