في الوقت الذي يرى الكثيرون فيه أن الربيع العربي لم يوفّق حتى الآن في تحقيق أهدافه المرجوة، من ديمقراطية وعدالة وحرية، كانت دول هذا الربيع العربي على موعد مع التغيير، ولكنه تغيير من نوع آخر. فبالتزامن مع إطلاق الهتافات المطالبة بالحرية وإسقاط الأنظمة من قبل الثوار، كانت هناك أفكار محظورة وجد أصحابها في هذه الأحداث وسيلة للتعبير عنها بحرية. الإلحاد هو أحد الأفكار التي شقت طريقها وانتشرت بين الكثير من الشباب بشكل معلن وجريء. ومع ما تحمله صفة الملحد لصاحبها من مخاطر، إلا أن هؤلاء وجدوا أن حرية التعبير يجب أن تنسحب على كل شيء، حتى المعتقدات الدينية التي لطالما كانت أحد المرتكزات الأساسية للأنظمة الحاكمة في الوطن العربي والمصدر الأساسي لعادات وتقاليد الناس وأخلاقهم. هذه الشجاعة قد تكلفهم الكثير، ابتداء من نبذ المجتمع لهم، وصولًا إلى إصدار أحكام قضائية بحقهم، كما حدث مع الشاب المصري محمد البنا، الذي صدر حكم بسجنه ثلاث سنوات لإعلانه بأنه ملحد.
صدر حكم بسجن الشاب المصري محمد البنا ثلاث سنوات لإعلانه أنه ملحد
وفي تقرير أعده مركز "ريد سي" التابع لمعهد "غلوبال" عن أعداد الملحدين في دول العالم، تبين وجود 2293 ناشط ملحد، يعلنون إلحادهم في الوطن العربي موزعين على النحو الآتي: مصر الأولى عربيًا بمجموع 866 ملحدًا، تليها المغرب بـ325، وتونس بـ320. وسجلت باقي الدولي العربية أرقام متباينة لكنها ليست بالكبيرة، إذ يوجد في العراق 242 ملحدًا، و178 في السعودية، و170 في الأردن، بالمقابل ينخفض العدد في ليبيا التي يوجد فيها 34 ملحدًا، و70 في السودان، و56 في سوريا، و32 في اليمن. ويعتقد كثيرون أن هذه النسبة لا تعبر عن الحقيقة كاملة، وإشهارها مدفوع بدوافع متباينة، ناهيك عن القدرة العملية على إحصاء المعتقدين بمعتقدات فكرية كالإلحاد، إذ يكفي أن تسأل أحدهم في الشارع هل أنت ملحد؟ حتى تلقي عليه الشبهة وتعرض حياته للخطر. وفي المقابل يصرح كثير من المطلعين على التقرير بأنهم قادرون على إحصاء اعداد من الملحدين تفوق هذه النسب وتحديدا في السنوات الثلاث الأخيرة. نتحدث هنا عن الناشطين الذين يجاهرون برأيهم وحسب، ضدّ الموروثات الاجتماعية.
بين الإلحاد والإسلام المتشدد
طغى الخطاب الديني على أغلب ثورات الربيع العربي، رغم أن الأسباب الأساسية للثورات لم تكن دينية. لكن لوحظ هذا الطابع الديني عبر استبدال شعارات الحرية وإسقاط الأنظمة بهتافات تعبر عن الولاء للإسلام وضرورة العودة للشريعة الإسلامية ليحتكم الناس بقوانينها بعد سقوط النظام السياسي. وازدادت تلك الموجة الإسلامية أكثر مع ظهور تنظيمات متشددة كتنظيم "داعش"، الذي أصبح له فروع في أكثر من دولة عربية، وقبله جبهة النصرة، وهي فرع تنظيم القاعدة في سوريا. ورأينا على شاشات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي الكثير من الممارسات الوحشية من قبل هذا الجماعات بحق المدنيين، من رجم وقطع للرؤوس وصلب وغيرها. هذه الممارسات كانت كفيلة بأن تجعل الكثيرين حتى ممن يعتبرون أنفسهم معتدلين دينيًا أن يروا في الدين منظومة وحشية قائمة على القتل والسحل دون رحمة.
ورغم توصيف المجتمع الدولي والكثير من رجال الدين لهذه الحركات بالإرهابية، إلا أنه ومن ناحية دينية لم يتم تكفيرها، في كثيرٍ من الأحيان، حتى من الأزهر، الذي اكتفى بالتصريح بأن جرائم هذه الجماعات ليست من الإسلام. فضبابية مواقف المؤسسات الدينية وتناقضها اتجاه هذا المد المتطرف، أثارت استياء الشباب بشكل كبير، وعلى سبيل المثال عندما قام داعش برجم امرأة في محافظة الرقة لاتهامها بالزنا كان الاعتراض من قبل بعض رجال الدين هو حول عدم اكتمال شروط الحد، وبالتالي النقد لم يكن موجهًا لفعل الرجم بحد ذاته بل لشروط تطبيقه فقط. وهذا أدى بدوره الى أن يجد الخطاب الديني المعتدل نفسه عاجزًا عن تبرير ما تقوم به هذه الجماعات من ممارسات مستمدة من الكتاب والأحاديث الصحيحة، مكتفيًا بوصفها بالتشدد والتطرف، الأمر الذي ولّد حالة من التناقض لدى الشباب حول مفهوم التطرف في وعلاقته بالإسلام الصحيح أو الحقيقي. ومن ناحية أخرى، كان لتعثر تجربة الإسلام السياسي في مصر، دور في تعزيز نقض مقولة أن "الإسلام هو الحل"، وانسحب الموقف من الجماعات الإسلامية ليصير موقفا من الدين نفسه.
كل ما سبق ذكره وفّر البيئة الحاضنة لانتشار الفكر الملحد والتمرد على الدين ردة فعل على المد الدموي للجماعات المتطرفة. وبدأت فكرة الإلحاد تجد طريقها بسهولة إلى عقول الشباب العرب. وبدأ شعور تغييب العقول وهيمنة الدولة على الشعوب من خلال التشريعات الدينية يتنامى لديهم بقوة. وبتعبير آخر أصبحت فكرة الإلحاد وسيلة قطاع من الشباب لمجابهة أي نوع من أنواع السلطة الدينية وأيضا السياسية، وباتوا يعلنون ولاءهم المطلق للعقل والمنطق فقط، وبأن من حقهم تقرير مصيرهم ورسم حاضرهم ومستقبلهم من دون وصاية الدين.
تحتاج هذه الظاهرة وقتًا كافيًا حتى تتبلور وتظهر ماهيتها وأبعادها الحقيقية. فحتى الآن يمكن تسمية الإلحاد المنتشر بين الشباب بـ"الإلحاد الكيدي" الناجم عن ممارسات دينية مكروهة ومرفوضة أو مفروضة على الفرد، وبالتالي يصبح الإلحاد وسيلة لدفاع الناس عن أنفسهم وبقائهم تجاه هذه الممارسات، وهذا يختلف طبعًا عن فكرة الإلحاد الأساسية القائمة على عدم الاعتراف بوجود إله وإنكار الرسالات السماوية. نحن هما، لا نتحدث عن ديالكتيكيين عرب، إنما عن مجرد ظواهر، تمامًا كذلك التنظيم الذي يطلق على نفسه اسم "الدولة الإسلامية".