21-أكتوبر-2017
بربرية التضليل مستقبل الديمقراطية والرأسمالية

اللوحة للفنان المكسيكي دييغو ريفيرا

لا يجري مسار التعاطي الغربي مع الديمقراطية وفق قاعدة النظر لتلك الزهرة الثمينة القابلة للكسر، بل للانتفاء بالتحايل عليها وما يتم من التفاف وهيمنة مركبة نحوها. بل السائد يقوم على النظر للديمقراطية كديكور اجتماعي، جزء من التأثيث المؤسسي اللازم لاستدامة الحالة القائمة منذ ما بعد الحرب الكونية الثانية. وبالنظر لتعريف أرسطوطاليس، المعادي للديمقراطية بموقفه للمناسبة وإن كان بنبرة أهدأ من تلك التي لأفلاطون، للديمقراطية على أنها سيطرة الأحرار والفقراء، وهم الأغلبية للمصادفة منذ أرسطوطاليس حتى اليوم، على الحكم/الحكومة.

تبقى الديمقراطية بلا الحقوق والحرية الاقتصادية كالعلاقة الغرامية بالمراسلة

بحرفية هذا التعريف فقد تم استثناء كثيرين من الديمقراطية ضمن الحالة الأرسطية، النساء، المهاجرين وبالتأكيد العبيد. من التعسف التغاضي عن أولئك الذين استثنتهم الديمقراطية الإغريقية، ليس فقط لتركيزها على العاملين الأحرار ونزوعهم لحرية التعبير، فالأمر هنا لا يتعلق بحرية التعبير وفق الفهم المجرد لها، بل الأهم هو حرية التعبير المرفقة بالإسهام في صناعة القرار المتعلق بالدولة/ حالة الحكم. في حين يلتقي هذا التعريف، دون التطرق لمن يستثنيهم بالفهم اليساري، بل حتى مع التفسير اللينيني عبر دكتاتورية البروليتاريا، لذلك يصعب القول أن الديمقراطية الليبرالية الفاعلة اليوم هي ذات جذور تتعلق بالديمقراطية اليونانية، كونها حاصل عصر التنوير والثورات القومية وبناء الدولة الأمة في القرن السابع عشر وما تراكم بعده من بلورة لمجتمع المدني والوساطة بين الحكم والمحكومين، دون نسيان محطة  بناء الدستور الأمريكي في تحديد معالم هذه الطبعة من الديمقراطية. لكن هذه النسخة من الديمقراطية تعاني من ابرز المخاطر المستمرة متمثلة بالفصل المنهجي والمتعمد بين الفضاء السياسي والفعل الاقتصادي، والتخلي عن الصراع في الفضاء الاقتصادي لصالح فاعلية الشركات ورأس المال، وكأن الديمقراطية منطقة منزوعة الاقتصاد، وجدت لممارسة بعض الحريات المتعلقة بالتعبير عن الرأي وكأن علاقتها بالحكم والسلطة لا تتجاوز حدود الاقتراع الدوري!

في حين التفكير السائد في الاقتصاد اليوم، على مستوى أكاديمي وإعلامي، أكثر ما ينشغل بنوع من العلم الإحصائي والمتعلق بالأرقام والسوق أكثر من انشغاله بالاقتصاد الحقيقي القائم في مجريات الواقع وآليات عمله ومستويات هيمنته رفقة الرأسمالية كما هي موجودة في واقع الممارسة. ولذا تتبدى أهمية التفريق بين علم الاقتصاد من موقعه المختلط بين التطبيقي والإنساني عن العلوم الطبيعية، الفيزياء مثلًا، فمن غير المفيد لفيزيائي أن يهدر جهده على بحث تاريخ الفيزياء، وهو تاريخ مليء بالتجربة والخطأ، مع هكذا علم يمكن القفز لآخر ما أثبت، بالتأكيد لا بأس من فهم السيرورة التي آل عبرها إلى الخلاصات. لكن بما أن جاذبية نيوتن واضحة ومفهومة، أو أبسط من ذلك، نفي فرضية الأرض المسطحة، فلا طائل من وراء القفز إلى ما قبل بلورة هذه المعرفة، فلن يضيف شيء إلى ما تم التوصل إليه حقًا في هذا المضمار. أما الاقتصاد، فإذا تم اعتباره علم، وهذا مثار تشكيك إذا كان علمًا خالصًا، فالحال يفترق عما لدى الفيزياء وعلوم الطبيعة. هذا منبعه أن تجارب الأجيال التي سبقت وسبق لها فهم آليات اقتصادية متنوعة في تشابهها واختلافها عما يختبره عالم اليوم يبقى من الأهمية بما يكفل أن الحقائق المتعلقة بآليات عمل الحقل لا تختفي أو يتم تغييبها، فلا يكتفى عندما يتعلق الامر بالاقتصاد، ومن ضمنه الرأسمالية، بالقفز نحو الخلاصات والأخذ بها بمعزل عن سياقات إنتاجها المعرفية والمادية. ليبقى المسار الأسلم للتعاطي مع الحقل الاقتصادي عبر تاريخ الاقتصاد نفسه وتاربخ التفكير فيه إلى جانب التحليل للظرف الاقتصادي المعاصر، بحضور ثلاثة هذه العناصر فقط يمكن الحديث عن بناء فهم اقتصادي، أو حتى موقف في الاقتصاد.

من هنا يصبح من اللافت كيف لمعظم النقاشات والأحاديث المطروحة على العموم بشأن الرأسمالية أن تنتهي، من حيث يدري أصحابها أو لا يدرون، لتكون أحاديث كتلك المعتادة والمكرورة عن الأسواق، بغض النظر عن الموقف من طبيعة السوق، وكأن الرأسمالية ما هي إلا السوق. أما الحديث عن الديمقراطية فهو محور الضياع الأكبر، ولا يحضر منها سوى عمليات الاقتراع أو العودة للتعريفات المدرسية الإغريقية أو تلك المتعلقة بديمقراطية الشكلانيات والوظيفية المؤسسية.

تمسي الرأسمالية بدون الدولة وأدوات احتكار العنف والهيمنة، ناعمها وخشنها، كالديانات التوراتية بدون فكرة الجحيم

يبقى الضياع  المفاهيمي بشأن الاقتصاد مبرر، وليس بالضرورة مقبولًا، على الأقل عند الاطلاع بأحجام الإقراض للأفراد وللدول ومؤسسات الحكم. والأنكى حجم إعادة الجدولة والهيكلة لهذه السلاسل الجبلية من القروض، حتى يتغذى الشعور بأن هدف الدائنين الوصول لحالة إعادة الهيكلة أكثر من القيمة المادية لاسترداد أموالهم والفوائد عليها. هذا ما بدا بوضوح وقح في سلوك صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي تجاه اليونان في أزمتها المفتوحة، حين يكون الرد الأوروبي "أن الانتخابات والاستفتاء الشعبي لا يمكن أن يكونا قاعدة لتغير سياساتنا الاقتصادية المعتمدة"! ما يعد موقفًا من الديمقراطية في جوهرها وليس في العملية الانتخابية أو الإجراء الاستفتائي فقط، بل الصراع هنا مع ما تختاره الأغلبية.

للمفارقة هذه أوروبا الليبرالية التي تسعى لأن تكون الأنموذج، بينما مثل هذا الشعار يرفعه الحزب الشيوعي الصيني منذ ثلاثة عقود. هكذا تتحول الديمقراطية تحت وطأة النخبة المسيطرة على الاقتصاد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية لمجرد شعار شعبوي ومشروع بروباغندا تمامًا كنظريات العرق والنقاء الطهوري واستعمال الديمغرافيا ومزجها باللاهوت لدى اليمين الفاشي بأبشع طبعاته كالجبهة الوطنية في فرنسا أو الليكود في إسرائيل والمعجم الترامبي كاملًا.

كما تحل سياسات الإقراض والديون مضن مرتكزات النمط الرأسمالي منذ بدايته، بل إنها أبرز أدوات السيطرة المؤدية لحالات مبالغ في توحشها من الهيمنة ما قبل الرأسمالية، لكن مع الرأسمالية الحديثة وبتعميم النيوليبرالية  بعد الحرب العالمية الثانية أصبح للدين قيمة قانونية وصبغة أخلاقية معًا. وعندما تنتهي قدسية التجريم بالدين العام القسري، فقط هنا يكون مسمار أخر قد أسهم في خلخلة نمط الهيمنة القائم، تمامًا عندما لا يعود من بدأ عملًا تجاريًا وفشل أمام خيار انتفاء حقوقه المدنية وسجنه أو تجويع أطفاله. ويكفي النظر في المنطقة العربية للحالة المصرية مع جدلية الإقراض وإعادة الهيكلة لتوخي كيف تقع الدول، وتتهاوى المجتمعات، ويفرض البعد الاقتصادي أدواته على الفضاء السياسي بغض النظر عن طبيعته بين الديمقراطية أو النسخة البروباغندية منها أو الاستبداد.

 يشكل غياب الصالح العام انتفاء لشرعية الدولة لتصبح أداة ضبط وتحكم لا أكثر

تعني هيمنة المجال الاقتصادي على الفضاء السياسي بشكل مبسط وجود أحدهم في الحكم اليوم ولكن خارج السلطة، فكلما نجحت السلطة بالإبقاء على هذا الفصل يكون الهدر في أقصى حالاته، وهذا ما يمكن تسميته الحرمان من عوائد الإنتاج واحتكار الموارد.

للسخرية يمكن التنبه إلى أبرز الأمثلة التطبيقية على ذلك، ليس ضمن الحالة الليبرالية الغربية، إنما من صلب التجربة السوفييتية. وهذا يكون عبر الإبقاء على الفقراء في فقرهم نظرًا لأن هذه الحالة لا مخرج منها دون قلب معياري لقواعد السلطة من الجديد. هنا تمامًا يحضر الاستبداد وفعاليته بالنسبة للسلطة. أما في الحالة الغربية فيأخذ بعدًا أكثر تسترًا يتعلق بالإبقاء على الفقراء في فقرهم دون تجريدهم حقوقهم المدنية وبعض الممارسات السياسية كالاقتراع، فيكفي الحفاظ على مستويات متدنية من الحد الأدنى للأجور في مقابل كلف معيشية تستهلك هذه الأجور بشكل استنزافي لاستدامة حالة الهيمنة بعيدًا عن شبهة الاستبداد المعلن رديئة السيط.

هكذا إذن يتم الحفاظ على الهدر بالمعنى الاحتكاري لحاصل الإنتاج من رساميل والفجوة بين الاقتصادي والسياسي تتسع أكثر مصحوبة مع صراع اجتماعي أعمق يفسح المجال لخطابات الشعبوية سواء اليمينية العنصرية، أو شعبوية بنكهة يسارية خالية من الانحياز الحقيقي للأفقر والأضعف كحالة رأسمالية الدولة الصينية وخطاب حزبها الشيوعي.

يرتبط تحدي تغييب الديمقراطية المستقبلي بتراكم جبال الديون العامة، والفوضى والهدر في مصير تقدم التكنولوجيا

لذا فالسؤال يكون حول إمكانية الرأسمالية الاستمرار بشكلها الحالي في علاقتها المهيمنة على الفضاء السياسي في ظل تصاعد الثورة التقنية، هل ستصل لمرحلة خدمة الآلات للبشر في حين يتلهى هؤلاء بالتساؤل حول معنى الحياة واكتشاف ما لم يكتشف في الكوكب من فنون ومتع ومعارف أو الفضاء حتى.

بعيدًا عن التقديم الأوتيوبي لرأسمالية المستقبل، أو مستقبل الرأسمالية، كل هذا يتحطم عند إدراك أن لا مخرج بادي للصراع بين من يملك ولا يعمل ومن يعمل ولا يملك، أي بين رأس المال وقوة العمل في نسخته الكلاسيكية جدًا. وإن كان برفقة كل الديكورات والتعقيدات التي راكمتها الرأسمالية خلال القرنين الأخيرين. بالتالي تتحطم الوعود الكنزية.

بفحص موثوقية وارتباط كل هذه التعقيدات واشتباكها في ساحة الفعل والتأثير على المصير وتقرير المصير للأفراد والمجتمع يمكن استخلاص أن فكرة توحيد الاقتصادي بالسياسي، التنبه لهما معًا، العمل بما يجرد الاقتصادي من التحييد أو الإقصاء للسياسي هو المهمة الفعلية التي تتيح للديمقراطية لوازم العيش. وهنا يكون لتطورات الفهم الماركسي علاقة تفكيكية وثيقة بقدر ما لنقد الكنزية والنيوليبرالية علميًا، من باب الحاجة لفهم معمق لمصير تطور المسار التقني بالتوازي مع عقدة الاقتصادي مقابل السياسي أو فوقه. وهنا منشأ الوقوع في الحيرة المضللة عندما تكتفي بالرصد بعيدًا عن التفكير في مخارج من النفق الذي تضره المواقف الأيدولوجية بقدر حاجته للحواصل العلمية. فعندما تفرض منظومة اقتصادية محكومة بالأزمات والفشل الذي لا تدفع هي أو فواعلها الثمن بقدر ما تدفعها الأغلبية، صاحبة القرار المجردة منه، التي لا تلمك سوى قوة عملها ويكون هذا الاستمرار محكوم بإرادة سياسية أكثر من نفعه الاقتصادي للصالح العالم كتجربة منطقة اليورو مثلًا التي من الشرعي توقع كل احتمالات المستقبل الكارثي بشكل الصراع الممكن تفجره ضمنها.

يفترض بالموقف من الخصخصة أن يكون بناء على خصخصة ماذا بالضبط وتحت طائلة أي ظروف بالتحديد ولصالح من  وعائد العملية على الصالح العام

لأن الرأسمالية لم تبدأ بشكل ديمقراطي، أي لم يتم الاختيار بين هذا النظام أو ذلك، بل جاءت كحصيلة ما راكمه العالم الصناعي جنبًا إلى جنب مع المجهودات الاستعمارية، بناء على دورها في توفير الأسواق والخامات، وهذا ما يتغاضى عنه في عديد الأدبيات، فالتساؤل الرأسمالي المهم والمستمر دائمًا هلي يمكن تحقيق النمو وفائض القيمة بالمعدلات ذاتها أو أكثر إذا ما أطلقت يد الحرية في المجال السياسي، ديمقراطية سياسية بعيدًا عن الاقتصاد، ما يتم حالة توفي بين هذا وذلك، إطلاق ممنهج غير متحرر من الضبط والتحكم. وهذا ما يحيل لعلاقة الرأسمالية والدولة بالديمقراطية على قاعدة اذهبوا لصندوق الاقتراع لكن لا تتدخلوا في السياسات الاقتصادية، أو في شكل الاقتصاد السياسي المحمي أساسًا بمنظومة دولتية مكتملة مرتبطة بالسوق العالمي. في حين أن بريتون وود بالضرورة لا تترك خيارًا للمشرع ولو أراد الفاعل المحلي التحلل من هذه التبادلية. ومجددًا يمكن القول أن لا إشكال ليبرالي غربي بالتحول نحو أدوات الحزب الشيوعي الصيني، أي حجر الديمقراطية إن كانت ستوثر على أي من مجريات البنية الاقتصادية المهيمنة، وهذا ما يثبته تعاطي مؤسسات بحجم صندوق النقد الدولي أو البنك الأوروبي أو البنك الدولي مع خيارات الشعوب عندما تتطرق للاقتصاد، وكذلك عدم تحرجها من التعاطي الفعال مع أعتى الأنظمة الاستبدادية إن كانت سائرة وفق ما لديها من وصفات هيكلية. ففي الحالة الأولى ترفض تسرب الحريات السياسية للفضاء الاقتصادي، بينما في الحالة الثانية ترفض أخذ مجريات الحقل السياسي بعين الاعتبار الاقتصادي، وكلتاهما مجزرة حقوقية. 

بين أبرز القضايا التي تثيرها الرأسمالية الحالية، وكذلك النقاش السائد المتعلق بالأسواق وكأنها مجمل الرأسمالية، قضية الخصخصة. والخصخصة لا شك ليست بالاستسهال الانتقائي بنعم أو لا، بمجرد قبوله أو نفيه تحل الأحجية، مع امتلاك الدولة، النظام في حالات ما قبل نضوج الدولة الأمة ودولة المواطنين، لكل مصادر الإنتاج أو عدم امتلاك الدولة لأي منها. وكذلك يجب التفكير في مقابل الخصخصة هل تكون ملكية الدولة لأدوات الإنتاج وهيمنتها على علاقاتها، أم الدولة ممثلًا عن الصالح العام. لذلك يفترض بالموقف من الخصخصة أن يكون بناء على خصخصة ماذا بالضبط وتحت طائلة أي ظروف بالتحديد ولصالح من وعائد العملية على الصالح العام. وعليه، يكون التساؤل حول خصخصة الإنتاج الثانوي والقطاعات الخفيفة والمتوسطة مختلف بالمجمل عن الحديث حول خصخصة شبكة التغذية بالتيار الكهربائي أو المصادر الطبيعية، أو الأخطر خصخصة قطاعي الصحة والتعليم، ببساطة لأن أخر سبعة عقود من عمر الكوكب تقول أن هذا غير ممكن، ليس لناحية التطبيق بل لناحية ما يترتب عليه من نتائج. فلا يفترض عملانيًا كما نتاج موقف أخلاقي قبول الاحتكام للربح والخسارة والاستثمار فيما يتصل بمعطيات الحياة الأساسية للمجتمع كمنظومة التعليم والصحة والطاقة على ان يكون المعيار الحقوقي حاضرًا بحضور واجبات وحقوق المواطنة المتساوية. لهذا تزداد خطورة تداعيات تناقضات الأجندة وصراع الترويكا الرأسمالية ما بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنوك المركزية والتكتلات الإقليمية كالاتحاد الأوروبي أو الأوراسي وغيرهما عند قياس أثر تدخلاتهما على المستويات المحلية، وعلاقة ذلك بالفضاء السياسي لناحية إقصاء الخيارات الديمقراطية أو القبول بمعطيات الاستبداد.

تتحول الديمقراطية تحت وطأة النخبة المسيطرة على الاقتصاد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية لمجرد شعار شعبوي ومشروع بروباغندا تمامًا كنظريات العرق والنقاء الطهوري 

لا متسع لإنكار أن تحدي تغييب الديمقراطية المستقبلي يرتبط بتراكم جبال الديون العامة، والفوضى والهدر في مصير تقدم التكنولوجيا، إنجازات تحرم منها الأغلبية وتغيب عن خدمة الصالح العام. وبالتأكيد مستوى الدخل الفردي والقومي في مهب هذا التحدي ومعهما القدرة الشرائية عندما يتم التطرق للسوق. هذا ما يمكن أخذه في إطار مثال تراكم السيولة النقدية في المؤسسات البنكية، أو في الحالة الأكثر بشاعة من الفساد السياسي المعمق في الاقتصاد، كشركات الأوفشور والتهرب والإيهام الضريبي، كما أظهرت وثائق بنما مثلًا، بالتالي يحرم الصالح العام من الاستفادة من السيولة النقدية المغيبة وغير الحيادية، عوضًا عن تعطيل استثمارها في تنمية القدرات البشرية والفرص المتاحة. أو الاستثمار في التكنولوجيات الخضراء والبيئية التي تعد بأن تكون مستقبلًا ممكنًا سواء للرأسمالية بنسخة محسنة منها توحد الحرية والحقوق الاقتصادية بالحريات والحقوق السياسية، أو ما هو أكثر عدالة أو أوتيوبية عندما يختمر!

ختامًا، يحضر التعريف الفريد للموسيقار الإنجليزي والصديق الماركسي التحرري براين إينو، للديمقراطية، على أنها نظام يتبناه أولئك الذين لا يعرفون ما الذي يريدونه بالضبط، بالتالي يسمح لهم بالنقاش والإقرار جماعيًا ما الذي قد يكون الأصلح لحالتهم. لكن الديمقراطية بلا الحقوق والحرية الاقتصادية تبقى كالعلاقة الغرامية بالمراسلة، تمامًا كما هي الرأسمالية بدون الدولة وأدوات امتلاك العنف والهيمنة، ناعمها وخشنها، تمسي كالديانات التوراتية بدون فكرة الجحيم. في حين يشكل غياب الصالح العام انتفاء لشرعية الدولة لتصبح أداة ضبط وتحكم لا أكثر، بل وصنم يعبد أو يحث على عبادته ويجري التخويف من خلخلته كحالة الاستبدادات العربية المكتفية من الدولة بأدوات السلطة والقمع لإقرار التغييب المتعمد للصالح العام ومجتمع المواطنين.