لم تكن "حادثة باب سويقة" التي جدّت في تونس يوم 17 شباط/فبراير 1991، مجرّد اعتداء مجموعة تلمذية على مقرّ الحزب الحاكم حينها، بل مثّلت "أسطورة" المنظومة الدعائية لنظام بن علي طيلة عقود لتبرير قمعه وانتهاكاته ضد المعارضة التونسية وتحديدًا حركة النهضة الإسلامية.
مثّلت حادثة باب سويقة "أسطورة" نظام بن علي لتبرير قمعه للمعارضة في تونس لسنوات ولا تزال حقيقتها الكاملة غير واضحة لليوم
بثّت قناة الجزيرة مؤخرًا تحقيقًا حول الحادثة الأكثر إثارة للجدل في تونس بعنوان "حريق باب سويقة" وقد عرضت خلاله شهادات المتهمين وكذلك من موظفين سابقين في وزارة الداخلية لفك لغز لا يزال التونسيون لا يعرفون حقيقته كاملة.
اقرأ/ي أيضًا: في الذكرى الـ6 لاندلاع الثورة.. "تالة عصيان أبدي"
الحريق: تدبير شباب أم تخطيط تنظيم؟
أكّدت الدقائق الأولى للتقرير جزءًا من الرواية المتداولة وهي أن الحادثة دبّرها شباب من الحركة التلمذية لحركة النهضة بطريقة فردية ولم يقع توجيهها من القيادة، وهي الرواية التي تعترف بها حركة النهضة اليوم.
حيث أكّد المتهمان محمد الجلاصي وعبد النبي رابح أنهما مع مجموعة من زملائهم خططوا لمهاجمة مقرّ الحزب الحاكم في باب سويقة بالعاصمة بهدف إحراق الوثائق الموجودة فيه والتي يرجّح أنها تتضمّن وشايات ضد معارضي السلطة. وأشارا أنه وقع تقسيم الفاعلين إلى مجموعتين، الأولى هي مجموعة الاقتحام وتلبس شريطًا أحمر، والأخرى هي مجموعة الحراس وتلبس شريطًا أخضر.
غير أن التقرير لم يغص في البحث عن الجزء الآخر من الرواية المتداولة وذلك حول وجود دور ما لقيادة الحركة في الحادثة سواء في الإعداد لها أو الموافقة عليها. ففي هذا الإطار، جمّدت وقتها ثلاث قيادات من الحركة عضوياتهم بسبب "موافقة بعض قياديي الحركة" على العملية، وفق بيان صدر بعد أقل من شهر من الحادثة، حمل توقيع عبد الفتاح مورو، النائب الحالي لرئيسها ونائب رئيس البرلمان، وبن عيسى الدمني والفاضل البلدي وهما من القيادات البارزة حينها للحركة.
لم يبحث التقرير عن هذا المحور في الملف وتحديدًا عن "القيادات" التي قيل إنها وافقت على العملية، ولم يتم عرض شهادة عبد الفتاح مورو، الذي واكب تطوراتها لاحقًا. فلا يزال يعتبر اليوم العديد من مناضلي حركة النهضة أن مورو خذلهم حينها وخيّر الانسحاب حينما انطلق بن علي في حملة القمع ضد الحركة في "سنوات الجمر". إذ يعتبر هذا الموقف "نقطة سوداء" في مسيرة مورو بحسب شق واسع داخل الحركة.
من جانب آخر، أكدت الشهادات المعروضة للمتهمين أن الهدف لم يكن إلا إحراق وثائق الوشايات، غير أن العملية أدت في النهاية لمقتل حارس مقر التجمع بباب سويقة عمارة السلطاني حرقًا وإصابة حارس آخر يُدعى لزهر براجة. يدفع المتهمون هذه المسؤولية ويتحدثون عن شخص مجهول يُدعى "نوفل"، ورد اسمه في محاضر البحث. ومن هذا المنطلق، ينطلق التحقيق في ترجيح أن العملية تحمل كذلك بصمات النظام.
حيث قدّم محمد بن محمود كريم، الذي ذُكر أنه كان يعمل في الإدارة العامة لدراسات الشؤون السياسية بوزارة الداخلية، شهادة أكد فيها أنه تحصّل على معلومات قبل وقوع الحادثة بيوم واحد حول وجود تخطيط لأمر ما بجهة باب سويقة، وأضاف أنه كتب بخطّ يده مراسلة لوزير الداخلية عبد الحميد الشيخ لإعلامه بذلك. وقال إن الوزير استدعاه لاحقًا مع زملائه لمكتبه وتم توبيخه وشتمه كما تم نقله من الإدارة. رجّحت هذه الشهادة فرضية وجود اختراق من الداخلية للمجموعة التلمذية التي دبّرت للعملية.
في هذا الجانب، تحدّث المتّهمون عن اتجاه الداخلية لفرض رواية معيّنة للحادثة عبر الحصول على اعترافات تحت التعذيب. يقول الموظف السابق في الداخلية، في هذا الجانب، إن التعذيب كان قاسيًا لدرجة أنه كان يقوم بوضع قطن على أذنيه رغم أن مكتبه في الوزارة يقع في الطابق الرابع في حين أن عمليات التعذيب كانت تتم بإدارة أمن الدولة في الطابق الأرضي. وقد مات وقتها المتهم فتحي الخياري تحت التعذيب. وتحدث محمد بن نجمة، وهو القيادي الأبرز في حركة النهضة من بين المتهمين، أنه وقع التحقيق مع 300 متهم على الأقل في مقر وزارة الداخلية.
لم يشر وثائقي الجزيرة لدور وزير الداخلية عبد الله القلال الذي تم تعيينه بعد يوم واحد من الحادثة والذي قاد الحملة الأمنية ضد الإسلاميين طيلة أربع سنوات لاحقًا. في هذا السياق وقبل أيام من عرض التقرير، انعقد لقاء بين رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وعبد الله قلال، الذي يُنظر إليه أنه الرجل الثاني في نظام بن علي والمشرف على ذراعه الأمنية. وهو لقاء أثار حفيظة عديد الفاعلين من داخل حركة النهضة وسط حديث حول إمكانية مساءلة الغنوشي داخل مجلس الشورى بسببه.
لم يشر وثائقي الجزيرة لدور عبد الله القلال في حادثة باب سويقة، وهو الذي قاد الحملة الأمنية ضد الإسلاميين طيلة 4 سنوات لاحقًا
الإعلام والقضاء في قفص الاتهام
لعب الإعلام الحكومي دورًا بارزًا في الدعاية لرواية النظام للحادثة عبر برنامج "المنظار" الشهير في التلفزة التونسية وقتها. حيث تم إعداد حلقة خاصّة حول الحادثة تم خلالها عرض ما تم وصفه بأنها اعترافات المتهمين. يقول المتهم محمد العربي جلاصي أنه تم تلقينه ما قاله أمام الشاشة، فيما أشار المتهم محمد بن نجمة أنه وقع تهديده بإلحاق الضرر بعائلته في حالة رفضه التصوير.
ولعلّ شهادة المتهم الشاذلي النقاش حول تعرضه للصفع من مقدّم البرنامج التلفزيوني حينها، المنصف الشلّي، عكست مدى تواطؤ الإعلاميين مع السلطة. قال بن نجمة، وهو المتهم الرئيسي، إن مسؤولًا في التلفزة العمومية أعلمه لاحقًا أن رئيس الجمهورية حينها بن علي وجه مكافأة مالية للشلي مقابل خدماته. وقد ظهر الشلّي، قبل أسبوع من عرض الجزيرة للوثائقي، في برنامج تلفزيوني محلي نفى فيه تورطه مع النظام وأن يكون قد قام شخصيًا بالتحقيق مع المتهمين. وقد عرض الوثائقي اتصالات هاتفية معه لأخذ شهادته ولكنه رفض ذلك.
تشير محامية المتهمين جينها سعيدة العكرمي، وهي حاليًا الكاتبة العامة لهيئة المحامين، أن عرض شهادات المتهمين وتصويرهم في ذلك الوقت تم دون أخذ إذن قضائي كما تفترضه الإجراءات. لم يكن القضاء بالنهاية خارج مشهد توضيب مسرحية المحاكمة.
تضمّن الحكم القضائي الأول أحكام قاسية دون الحكم بالإعدام، وتقول المحامية العكرمي إنه وقع "تجميد القضاة الشرفاء" في المرحلة الموالية التي تم خلالها الحكم بالإعدام على ثلاثة متهمّين، وهو حكم تم تنفيذه في تشرين الأول/أكتوبر من سنة 1991 ولا يزال للآن لا يُعرف مكان دفنهم.
وقد دافع وقتها عن المتهمّين أمام محكمة التعقيب، أعلى محاكم البلاد، العميد محمد شقرون، وذكر في تقريره أن أحد المتهمين تم تعذيبه 9 مرات.
بعد عرض الوثائقي، تداول الناشطون تقرير العميد أمام المحكمة والذي كشف مكامن الإخلال في تطبيق القانون وهو ما تجاهله القضاة. وقد كشف فريق الوثائقي عن محاولاته للاتصال بأحد القضاة لكنه رفض الإدلاء بشهادته في النهاية.
اقرأ/ي أيضًا: صحفيون مصريون.. "اشتراهم" بن علي لتمجيد نظامه!
مصالحة المتنازعين لم تغلق الملف
أعدّ فريق الوثائقي لقاءً جمع بعض المتهمين وليلى السلطاني، وهي ابنة الحارس الذي قتل حرقًا في الحادثة، في مصالحة بينهما أكد خلالها المتهمون براءتهم من دم والدها. من جهتها، قالت ليلى إن بن علي استفاد من الحادثة، وأكدت أنه تم حينها حرمانها من الاطلاع على الملف الصحي لوالدها وزيارته في المستشفى في حين تمكن قيادي من الحزب الحاكم من زيارته حسب ما عرضه برنامج "المنظار" وقتها.
وقد انتهى بالنهاية التقرير لجملة أسئلة لم توجد لها أجوبة قاطعة. "لماذا تم تزوير محاضر البحث ولم يقم القضاء بالبت في المسألة؟ لماذا لم يقع تغيير السجلات المدنية للمتهمين الذين تم تنفيذ حكم الإعدام بحقّهم إلا بعد الثورة؟ لماذا للآن لا يُعرف مكان دفنهم؟ ولماذا أساسًا لم تتدخّل السلطة لمنع الواقعة رغم ثبوت العلم بها قبل وقوعها بيوم؟".
طرح الوثائقي هذه الأسئلة ولكن تظل قاصرة لكشف الضوء على ملف قضية باب سويقة، وخاصة ما يتعلّق بموافقة قيادات من حركة النهضة على العملية وفق ما ذكرته قيادات بارزة وقتها، وكذلك عمق أثر هذه الواقعة في انتهاج سياسة أمنية قمعية ضد الإسلاميين. غير أن المصالحة بين الأطراف المعنية بالملف ذاته لم تنه الجدل حول حادثة هي سياسية بدرجة أولى وليست مجرد قضية جنائية، وهو ما يستدعي مصالحة أشمل بين ضحايا الحركة الإسلامية وأجهزة الدولة.
وقد استقبلت هيئة الحقيقة والكرامة، التي تتولى الإشراف على مسار العدالة الانتقالية في تونس، ملفًا حول الحادثة ولا تزال وقائعها محل دراسة من قبل فرق التحقيق في انتظار عقد جلسة استماع علنية لعرض الشهادات المتعلقة بها بحثًا عن حقيقة لا تزال غير بينة، لعلها قد تنهي الجدل في ملف لا يزال يُستحضر في تجاذبات الراهن السياسي.
اقرأ/ي أيضًا: