يمثّل أحمد حسو حالة وجدانية خاصة لدى سوريي ألمانيا. حبّه أمرٌ متفقٌ عليه، بل إنّ هذا الحب كثيرًا ما يأخذ الغرباء الجدد إلى مكان يصبح فيه نوعًا من صلة الدم أو القرابة. دائمًا ما تسبق اسمه كلمة "خال"، وتلك عادة كردية، تنتمي إلى تقاليد أموميّة تذهب إلى جعل النّاس أبناء خؤولة، على العكس من دأبنا الأبويّ نحن العرب في جعل الغرباء أبناء عمومة.
مرت اثنتا عشرة سنة على انتفاضة الأكراد في سوريا، حيث أسقطوا أول تمثال لحافظ الأسد
شتّان بين أن يكون الغرباء أبناء الأم ذاتها من آباء متعددين، "يا بن أمي وابن أكثر من أب" بحسب محمود درويش، على أن يكونوا شهواتٍ بذرها أبٌ عنجهي في أرحام نساء عديدات.
اقرأ/ي أيضًا: السوري وحش السوري
الخال المنحدر من عامودا الكردية في شمال سوريا، سيماه الابتسامة، وميزته سخريةُ تلك المدينة التي كانت تصدّر الضحك إلى الجهات السورية، وكان مقدّرًا لتك النزعة الساخرة أن تتحوّل إلى لافتات مدهشة يرفعها أبناؤها في مواجهتهم الصلبة مع النظام في بدايات الثورة، كما سبق وفعلوا في انتفاضتهم في 12 آذار/مارس 2004، أي قبل اثنتي عشرة سنة، يوم أسقطوا أول تمثال لحافظ الأسد في سوريا.
غادر الخال منفيًا منذ قرابة عقدين. عاش تجربة الاعتقال السياسي لكنه يفضّل عدم الحديث عنها نظرًا لقصر المدة قياسًا إلى ما عاناه أصدقاؤه.
بيته في كولونيا لا يختلف عن بيوتات الشخصيات النهضوية التي طالما قرأنا عنها. يحجّ إليه السوريون والفلسطينيون والأكراد والألمان، ويشكلون برلمانًا ثقافيًا صغيرًا يتسع لاختلافات الجميع. وربما سوف يأتي اليوم الذي يتذكر فيه السوريون هذا البيت بوصفه قطعةً مقدودة من بلاد الشام، وتستحق أن تضعها الذاكرة إلى جوار المعالم الأثيرة في تلك الأرض، وربما لأجل هذا لا تتبدد مشاعر السوري بالغربة والاغتراب إلا تحت ذلك السقف.
ينشغل الخال في عمله اليومي في "دويتشه فيلله-العربية"، حيث نرى لمسته في الخبر والمادة السوريين، وخارج العمل تراه مُكرسًا وقته لأجل ثورة بلاده، فلا ينفك يرتّب لوقفات واعتصامات، مع شريكته المترجمة الألمانية لاريسا بندر، أو يعدان لفعالية ثقافية ما. وعلى صفحته الفيسبوكية تجده منهمكًا في ملاحقة الخبر السوري في الصحافة الألمانية، فيترجم ما يجب أن يصل إلى الناس، ويقدم ملخصات توضّح اتجاهات الرأي في بلاد الجرمان بما يخص أبناء جلدته.
يحول الغرباء تعاسة المنفى إلى فاكهة تستحق أن يتشاركوها مع الآخرين في لقاء حميم
سيقولون: لماذا تكتب عن الخال وهو لا يزال حيًا؟ منذ متى نقدّر الأحياء؟ سأقول: أكتب بالذات لأنه حي، بل لأنه حي أكثر من الجميع، من حيث قدرته على تحويل تعاسة المنفى إلى فاكهة ناضجة، تستحق أن يتشاركها مع الآخرين في لقاء إنساني حميم يرمم الشروخ التي تضرب جذور الوعي والهويات في أوطاننا المنكوبة. أكتب عنه مقلدًا الحياة نفسها حين قدّمت لهذا الرجل -المثقل بالأشواق إلى بلد غادره مكرهًا- هديةً فريدة، فبدلًا من أن يعود كما يجب أن يحدث لكل المنفيين، جاءت البلاد نفسها إليه.
عاش الخال مصيرًا سوريًا مبكرًا، وكان ذلك إنذارًا لما تفعله الدكتاتوريات بأحلام البشر وحيواتهم، ولأجل هذا كان عليه أن يكافح على جبهتين؛ المنفى ومناهضة الاستبداد.
الآن بعد اقتفائنا آثاره في هذه الغربة يتضاعف الخال، قيمةً ومعنى، مع تضاعف وجهه على مرايا وجوهنا المتعاكسة.
اقرأ/ي أيضًا: