إذا حدث أن زرت مدينة "بودواو"، 40 كيلومترًا شرق الجزائر العاصمة، وبتّ في أحد أحيائها الغربية، فستضطر إلى أن تصحو باكرًا مع العصافير، ذلك أنك تسمع أطفالًا يُرددون عبارة "الخبز اليابس" بأعلى أصواتهم بشكل لا يدع لك مجالًا للنوم إلا إذا كنت من أصحاب النوم الثقيل.
يشتري الجزائريون يوميًا 49 مليون خبزة، دون احتساب كميات العجائن الأخرى، ويذهب عشرها إلى سلال المهملات
معنى العبارة أنهم يطلبون من سكان العمارات أن يعطوهم الخبز المزهود فيه، عادة ما يكون يابسًا، ليضعوه في أكياس تحملها الحمير التي يركبون ظهورها، ويقفزون عليها في خفة مدهشة، بمجرد أن يلمحوا كيسًا على الأرض أو يُرمى لهم من شرفة ما أو ينزل إليهم به طفل صغير من طابق معين.
اقرأ/ي أيضًا: أن تفقد جدتك الأمازيغية
تقول الإحصاءات إن الجزائريين الذين يقترب عددهم من عتبة الأربعين مليونًا بما فيهم الرضع الذين لم يبلغوا سن استهلاك الخبز، يشترون يوميًا تسعة وأربعين مليون خبزة، دون احتساب كميات العجائن الأخرى، يذهب عشرها إلى سلال المهملات. من هنا يجد هؤلاء الأطفال ضالتهم عند مطلع كل فجر، فيعودوا بحميرهم محملة بأكياس بعضها للاستهلاك البشري وبعضها للاستهلاك الحيواني وبعضها لإعادة بيعها.
تقع بيوتهم على بعد كيلومتر واحد من العمارات، وهي نوعان: خيام منصوبة كيفما اتفق وفيلات موروثة عن العهد الفرنسي، تسمى في اللهجة الجزائرية المفرنسة "الفيرمة"، مملوكة لأسر ثرية أتت بعائلاتهم المعدمة من قرى نائية للقيام بفلاحة الأرض الملحقة بها وتربية الأبقار، مقابل راتب زهيد، أو مقابل الاستفادة مما يُحلب أو يُجنى للمعيشة لا غير. رافقناهم إلى هذه البيوت فوقفنا على طرق أخرى للحصول على المال منها تربية "الدجاج البلدي" والأرانب ورؤوس محدودة من الخرفان المعدة لعيد الأضحى.
هؤلاء الأطفال لم يلتحقوا بالمدرسة. هنا تجدر الإشارة إلى أن القانون الجزائري يُجرّم حرمان الطفل الذي يبلغ سن السادسة من التعليم، وحين بحثنا عن كيفية نجاة آبائهم من طائلة هذا القانون علمنا أنهم متزوجون زواجًا عرفيًا وأولادهم غير مسجلين في دفاتر الحالة المدنية.
يجرّم القانون الجزائري حرمان الطفل الذي يبلغ سن السادسة من التعليم لكن العديد من الأطفال لم يلتحقوا بالمدرسة أبدًا لأسباب مختلفة
اقرأ/ي أيضًا: جنة الحرمان الجزائرية
يُجمع الآباء هنا على أنهم لا يشعرون بالذنب أو الندم، فهم يُفضلون العيشة التي عاشها أجدادهم في البادية. يقول الشيخ عبد الرحمن: "العبرة ليست بأن تكون متعلمًا بل أن تكون متخلقًا، وليست بأن تعمل عند الدولة بل أن تضمن لقمتك بنفسك". وافق الرجال الآخرون كلامه، فواجهناهم بهذا السؤال: "لكنكم تعملون في أرض غيركم وتتقاضون أقل مما تبذلون من جهود، فأين استقلالية اللقمة هنا؟"، فما زادوا على أن طلبوا منا الكف عن التدخل في الحياة الخاصة التي قالوا إنهم مقتنعون بها.
سألنا الطفلة ثلجة، 13 عامًا، عن إحساسها وهي تشق طريق المدرسة لتلتقط الخبز اليابس، فانطلقت في الحكي كأنها كانت تنتظر الفرصة: "ها أنت تراني كبرت، وقد بدأت أحس بالخوف من ذلك لأنه مدعاة لأن يمنع عني أبي مغادرة البيت، تمهيدًا لأن يزوجني بواحد من العائلة، وهو ما سيشكل لي سجنًا مخيفًا. إنني في الحقيقة لا أخرج لالتقاط الخبز اليابس بل لأتنفس وأرى خلق الله الذين يعيشون قريبًا منا لكنهم لا يشبهوننا. هم يذهبون إلى المدارس ونحن لا نعرفها ويغيرون ثيابهم وأحذيتهم ونحن نتشبث بالثوب الواحد والحذاء الواحد حتى يمل منا فنبقى حفاة وعراة، وينوعون أغذيتهم وأشربتهم ونكتفي بطعام واحد على مدار العام".
"ثلجة" نادت أخاها الصغير توفيق الذي كان مشغولًا بصدّ حماره عن زروع الناس وقالت له: "تكلم.. هؤلاء صحافة"، فرد عليها بعبارة بات يرددها الجزائريون في سنواتهم الأخيرة: "اللي قراو واش داروا؟" أي ماذا استفاد من تعلموا، جارًّا إياها من ذراعها في إشارة منه على أن تواصل طريقها.
اقرأ/ي أيضًا: