رئيس فنلندا السابق مارتي أهتيسآري كان أحد المفاوضين البارزين بين الروس - أي النظام السوري بشكل أو آخر - والغربيين في بداية الحرب السورية. في مقابلة له مع صحيفة الغارديان البريطانية نشرت في أيلول/سبتمبر الفائت، قال أهتيسآري إن الروس طرحوا منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف تنحي بشار الأسد، والتوافق على تركيب سلطة انتقالية في البلاد، شريطة أن يتوقف الغربيون، ومن خلفهم العرب، عن مد المعارضة بالمال والسلاح.
يرى أهتيسآري اليوم في عرض الروس فرصة ضائعة للسلام في سوريا، لكنه يعتقد أيضًا أن الغربيين رفضوا العرض الروسي لأنهم كانوا على يقين في حينها أن نظام بشار الأسد لن يصمد طويلاً. وعززت التجارب العربية السابقة هذا الاعتقاد لدى الغربيين. إلا أن النتيجة أتت معاكسة. بقي النظام السوري. بقي رغم الإعلام الذي مورس ضده، فواجهه بإعلامٍ مشابه. وألقى البراميل على شعبه ليبقى، وازداد توحشًا. حتى أنه فضل خسارة أجزاء كبيرة من سوريا، والاحتفاظ بالقليل، على الاستمرار بحربٍ لا أمل له فيها.
مع وصول الطائرات الروسية إلى سوريا قد يظن البعض أن التذكير برأي الرئيس الفلندي مفيد
ومع وصول الطائرات الروسية إلى سوريا، قد يظن البعض أن التذكير برأي الرئيس الفلندي، وهو مجرد تذكير لا أكثر، تبرير للحضور العسكري الروسي أو ترحيب به. غير أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق. فمنذ بدء الحراك في سوريا، وحتى قبل تحوله من حراك شعبي سلمي إلى قتال مسلح، يعترف كثيرون من متتبعي الشأن السوري، غربيين وغيرهم، أن الموقف الروسي تميز بثباته ووضوحه عن المواقف الغربية المتذبذبة. الروس لم يخفوا يومًا أنهم يقفون إلى جانب النظام السوري الذي يؤمن لهم موقعًا استراتيجيًا صغيرًا في منطقة حساسة بالنسبة لهم، لا تبعد أكثر من ألفي كلم عن القوقاز.
حتى أن الروس التزموا بخطاب النظام. لا معارضة معتدلة، إنما مجرد إرهابيين. من جهة أخرى، إن التجربة الروسية مع الثورات الملونة في جورجيا وأوكرانيا مثلاً، وما تلاها من حروب كحرب "الأيام الخمسة" في جورجيا، دفعت بالروس إلى التوجس من فكرة التغيير السوري. ولو دققنا بكلام الرئيس الفنلدي السابق، ربما يمكننا القول إن روسيا كانت لتقبل تغييرًا في سوريا، شرط ألا يكون بديل بشار الأسد عدوًا واضحًا لها مثل مخائيل ساكاشفيلي رئيس جورجيا السابق، أو بيترو بوروشينكو رئيس أوكرانيا الحالي. فهل صناع القرار في دوائر السياسية الغربية كانوا ليقبلوا برئيس توافقي في سوريا يحفظ مصالح الروس؟
إقرأ/ي أيضًا: الأسد في نيويورك!
في العمق، لا يختلف البرهان الروسي، الرافض لموجة التغييرات التي يشهدها العالم، لا يختلف كثيرًا عن نظيره الأسدي. الطرفان يريان في ما يحصل في سوريا، أو في دول أخرى من الفلك السوفياتي السابق، مؤامرة غربية. لكن روسيا، بواقعها كدولة عظمى، تمتلك حججًا متينة لخطابها وإعلامها، تتعدى خطاب النظام السوري الخشبي والهزيل عن الممانعة والمقاومة. النظام السوري لا يملك إلا البراميل.
قناة روسيا اليوم التي تبث باللغة الإنجليزية ليست أسوأ من القنوات الأمريكية المعروفة، كما أنها، بعيدًا من الشأن الداخلي الروسي، تمتلك لغة إعلامية مقنعة وطاقمًا جيدًا، على نقيض الطواقم السوفياتية السابقة. وهذه اللغة الإعلامية الحديثة في عالم "البرافدا" تنمو وتتقدم وتلقى النجاحات المطلوبة. فبالمقارنة مع الإعلام العربي الموالي لبشار الأسد، يتحاشى الروس استعمال كلمات من طراز "مؤامرة" على سبيل المثال. فهذه اللغة، كما لغة التباكي تمامًا، هي من اختصاص العرب الممانعين فقط.
يتحاشى الروس استعمال كلمات من طراز "مؤامرة" على عكس الممانعين العرب
السياسة الروسية اليوم، ربما يعود ذلك لكون "الفكر البوتيني" طاغيًا عليها، تتميز بواقعية عالية. روسيا تعرف حجمها، وتعرف مشاكلها الكثيرة، لكنها، سواء وصل إلى حكمها في مطلع الألفية الثانية رجل مثل فلاديمير بوتين أم آخر، لم تكن لتقبل استمرار حقبة "السكر اليلتسينية". من الساذج فعلاً الاعتقاد أن سياسيًا محنكًا مثل فلاديمير بوتين مهووس بعظمة روسيا كما يشاع، أو بإعادتها إلى مصاف الإمبراطوريات بالقوة. قالها بنفسه، "من يريد إحياء الشيوعية فهو بلا عقل، أما منَ لا يندم عليها، فهو بلا قلب".
لم تأت الطائرات الروسية اليوم لتدعم بشار الأسد أو لتضرب المقاومة المعتدلة أو داعش فقط. أتت لتقوم بكل ذلك بطبعية الحال، لكن سبب وجودها الأساسي هو اقترابنا من عالم مخيف، يفضل لغة السلاح على الديبلوماسية. الأقطاب السياسية، العسكرية، المصرفية، تتشكل تدريجيًا. ولا يمكننا لوم الروس وحدهم أو بوتين وحده على تردي حال الناس. جميع الدول أخطأت في سوريا، والمشكلة هي أن الجميع ما زال مقتنعًا، بدرجة متفاوتة، بخياره. ألا يخيفكم هذا العالم؟
إقرأ/ي أيضًا: موسم الحج إلى موسكو