هي أشبه بعملية إنزال في حرب، بل قد لا تبدو إلا كذلك بالنسبة لـ"حكومة الإنقاذ الوطني"، التي وصفت قدوم "حكومة الوفاق الوطني" من تونس إلى طرابلس على متن فرقاطة ليبية عبر البحر بـ"غير الشرعي". بل وهدّد الصادق الغرياني، المفتي المعزول من مجلس النواب والمدعوم من المؤتمر، والذي يصفه مراقبون بأنه أحد أكثر الشخصيات الليبية إثارة للجدل، بفتح "باب الجهاد" ضد الحكومة الوافدة. بالنهاية، قدمت الحكومة الناتجة عن اتفاق الصخيرات للعاصمة غير أنها لا تزال تلاقي رفضًا من معارضيها، في شرق البلاد وغربها على حدّ سواء، وذلك وسط الخشية المستمرّة من انفجار الأوضاع على الأرض، ومع تزايد التشكيك في مدى قدرتها على تنفيذ مقتضيات خارطة الطريق.
في ليبيا حاليًا ثلاث حكومات، "الحكومة المؤقتة" بقيادة الثني، و"حكومة الإنقاذ الوطني" بقيادة الغويل، و"حكومة الوفاق الوطني" بقيادة السراج
اقرأ/ي أيضًا: المحاصصة المناطقية في ليبيا.. الخطر الأكبر
الحكومة الوافدة في طرابلس بين الدّعم والرفض
بين مقترح مواصلة ممارسة أشغالها كحكومة منفى من تونس، ومقترح تمركزها بإحدى المدن الليبية غير العاصمة مثل مصراتة، دائمًا ما كان يؤكد أعضاء المجلس الرئاسي لـ "حكومة الوفاق الوطني" من جهة، والبعثة الأممية من جهة أخرى، على ضرورة ممارسة الحكومة لأعمالها من العاصمة طرابلس تحديدًا حيث لا يمكن تنفيذ مستلزمات خارطة الطريق وفق ما ضبطه اتفاق الصخيرات في ظلّ عدم قدرة الحكومة على دخول العاصمة أو البقاء فيها.
ولذلك ومع رفض المؤتمر الوطني المتمركز في طرابلس منذ البداية لاتفاق الصخيرات والحكومة الناتجة عنه، ومع تشكيل "حكومة الوفاق الوطني"، تمّ تكوين لجنة سُميّت "لجنة الترتيبات الأمنية " مهمتها تأمين حكومة الوفاق في العاصمة طرابلس، والتي أعلن رئيس حكومة الإنقاذ خليفة الغويل، في وقت سابق، بمعاقبة أعضائها. وتضمّ هذه اللجنة القيادات العسكرية للمجموعات الداعمة لحكومة الوفاق. وقد شدّدت اللجنة على قدرتها على تأمين الحكومة داخل طرابلس غير أنها فشلت في ضمان دخول الحكومة لها مع إغلاق المجال الجوّي الليبي تجاه الطائرة الحاملة لطاقمها.
ولم يكن من خيار لحكومة السراج غير الإبحار من تونس للوصول للعاصمة وهو ما تمّ على متن فرقاطة ليبية، ولتندلع على إثر ذلك بعض المناوشات بين المجموعات المؤيدة للمؤتمر والأخرى المؤيدة للحكومة غير أنها بقيت محدودة. ويعود ذلك أساسًا لعدم إعلان "حكومة الإنقاذ الوطني" حسمها في مواجهة الوافدين بالقوة رغم التهديد بذلك. من جانب آخر، يُرجع مراقبون ذلك إلى عدم رغبة أي طرف في الدخول في مواجهة مسلحة مع الطرف المقابل، خاصة مع تباين الموازين العسكرية لصالح القوى المؤيدة للحكومة الجديدة المدعومة بالتوازي من القوى الدولية.
وإثر قدوم الحكومة الجديدة، خرجت مظاهرة معارضة لها في طرابلس، ظهر فيها صلاح بادي وهو القائد العسكري الذي قاد عملية فجر ليبيا للسيطرة على مطار طرابلس سنة 2014. وقد سبق وإن تولى قيادة الاستخبارات العسكرية لمدة وجيزة إبان ثورة 17 فبراير.
من جهته، أعلن قائد لواء المحجوب، وهو لواء تابع لمدينة مصراتة وأحد أكثر الألوية العسكرية كفاءة عدة وعتادًا، أن مبنى رئاسة الوزراء أصبح تحت ذمة "حكومة الوفاق الوطني". كما تعهد حرس المنشآت النفطية، شرق البلاد، بالعمل تحت شرعية هذه الحكومة. وأعلنت عدد من المجالس البلدية بالمدن الغربية دعمها للحكومة الوافدة وذلك إضافة للمجلس البلدي بسبها، أكبر مدن الجنوب الليبي. وعلى المستوى الخارجي، أعلنت مختلف الدول الإقليمية والقوى الدولية دعمها لـ"حكومة الوفاق الوطني" عدا روسيا التي أعلنت على لسان سفيرها بالقاهرة أنها لن تعترف بأي حكومة قبل نيل الثقة من البرلمان.
وقد انطلقت حكومة الوفاق في أعمالها على الأرض حيث سارعت لعقد لقاء مع مجلس الدولة، وهو غرفة برلمانية استشارية نصّ على إحداثها اتفاق الصخيرات، وتتكوّن من أعضاء المؤتمر الوطني. وفي هذا الجانب، تشكّل الصبغة الاستشارية لهذا المجلس إحدى أهم نقاط الخلاف داخل المؤتمر الوطني حيث يرفض الشق المعارض لاتفاق الصخيرات الاكتفاء بدور يعتبروه شكليًا مقابل احتكام مجلس النواب على الصلاحيات التقريرية. وعمومًا انطلقت الحكومة الجديدة في أعمالها بالعاصمة وسط بقاء أجواء الحذر والترقب على حالها.
اقرأ/ي أيضًا: هل التدخل العسكري ضرورة حتمية في ليبيا؟
الآن.. ثلاث حكومات، "المؤقتة" و"المنقذة" و"الوفاقية"
في ليبيا حاليًا ثلاث حكومات، "الحكومة المؤقتة" بقيادة الثني، و"حكومة الإنقاذ الوطني" بقيادة الغويل، و"حكومة الوفاق الوطني" بقيادة السراج، وذلك بعد تواصل رفض الحكومتين الأوليتين الاعتراف بالحكومة الناتجة عن اتفاق الصخيرات.
فإضافة إلى حكومة الغويل المدعومة من المؤتمر الوطني، فإن "الحكومة المؤقتة" المدعومة من مجلس النواب، والمتمركزة في طبرق شرق البلاد، سبق وأعلنت بدورها على لسان رئيس حكومتها رفضها تسليم السلطة لأي حكومة قبل نيلها الثقة من مجلس النواب.
فلم تحظ حكومة السراج بعد بثقة مجلس النواب وذلك وفق ما يقتضيه اتفاق الصخيرات نفسه. حيث فشل المجلس في مناسبات عديدة طيلة الأسابيع الماضية في عقد جلسة لمنح الثقة وذلك لغياب النصاب القانوني، إضافة لحصول مناوشات حادة بين مؤيدي حكومة الوفاق والرافضين لها. وتجاوزًا لذلك، قام 100 نائب من مؤيدي الحكومة بتوقيع عريضة للغرض تمّ إرسالها للبعثة الأممية المشرفة على اتفاق الصخيرات.
في المقابل، يرفض رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، الذي سبق وأبدى تحفّظه على اتفاق الصخيرات، الاعتراف بحكومة الوفاق الوطني دون تعديل الإعلان الدستوري أولًا ونيل الثقة في البرلمان ثانيًا.
ونتيجة لرفض قيادات المؤتمر الوطني ومجلس النواب الاعتراف بالحكومة الجديدة، أعلن الاتحاد الأوروبي توجيه عقوبات ضد رئيس المؤتمر نوري أبو سهمين، ورئيس "حكومة الإنقاذ الوطني" خليفة الغويل، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح. حيث انطلق تجميد الأصول الراجعة لهم وإجراء حظر السفر ضدهم منذ يوم الجمعة. كما تحدثت مصادر ليبية على وجود مساعي لإضافة صلاح بادي، أحد القيادات العسكرية في طرابلس، وصادق الغرياني، مفتي البلاد في إطار المؤتمر، لقائمة العقوبات.
يعتبر التحدي الرئيسي أمام حكومة السراج هو في مدى سيطرتها على مختلف أجهزة الدولة المشتتة بين مختلف الحكومات
ويبقى المشهد ضبابيًا..
يبقى المشهد ضبابيًا في ليبيا عمومًا وطرابلس خصوصًا، حيث رغم الاستقرار الأمني بالعاصمة تحديدًا، فإن الجميع لايزال يضع يده على الزناد لتتواصل الخشية من اندلاع مواجهات واسعة في الوقت الذي يؤكد الجميع الحرص على عدم انفلات الوضع. فرغم تهديده في وقت سابق باستعمال القوة لطرد الحكومة الوافدة، اتّسم خطاب رئيس حكومة الإنقاذ في طرابلس طيلة اليومين الأخيرين بالهدوء حيث ذكر في بيان له بأن الاعتراض على قدوم الحكومة لطرابلس سيكون "بالطرق السلمية والقانونية ودون استخدام القوة أو التحريض على القتال". وشدّد بأنه سيكون ملتزمًا بما سيقرّره المؤتمر الوطني.
من جهته، اشترط المفتي الغرياني للقبول بحكومة السراج تعديل اتفاق الصخيرات في نقاط أهمها منح مجلس الدولة الناتج عن المؤتمر الوطني سلطة التشريع اأسوة بمجلس النواب، إضافة إلى تأكيد الالتزام بالشريعة الإسلامية في علاقة بمرجعية القوانين الدولية.
من جانب آخر وفيما يتعلق بحكومة الوفاق نفسها، لاتزال الخلافات على أشدّها داخل مجلسها الرئاسي المكوّن من تسعة أعضاء، من بينهم رئيس الحكومة السرّاج، وذلك بعد مقاطعة العضوين علي القطراني وعمر الأسود وهما من المقرّبين من قيادة عملية الكرامة التي يشرف عليها اللواء خليفة حفتر، لمداولاتها.
حيث اعتبر القطراني، وهو نائب رئيس المجلس الرئاسي، بأن جميع جلسات المجلس الرئاسي باطلة حسب اتفاق الصخيرات، مضيفًا أن "المجلس لا يصلح أن يقود ليبيا، لأنه مُسيطر عليه من الإخوان والمقاتلة وذيولهم". وصرّح القطراني أن من أهم شروطه للعودة للمجلس هو "خضوع الجميع للقيادة العامة للجيش الليبي" في إشارة لخليفة حفتر، مع "تسليم الميليشيات في المنطقة الغربية أسلحتها للجيش".
وبذلك تبقى الحكومة الجديدة، بين فكّي حكومة في الشرق ترفض تسليم السلطة دون المرور عبر البرلمان، وحكومة في الغرب ترفض تسليم السلطة قبل تعديل اتفاق الصخيرات، وبذلك لا تبدو حكومة السراج إلا كحكومة أمر واقع بالنهاية، لذلك سيتمثّل التحدي الرئيسي لها، في ضمان سيطرتها على مختلف أجهزة الدولة.
اقرأ/ي أيضًا: