بالطبع لم يكن بشار الأسد في أروقة الأمم المتحدة، التي التأم شملها في أعمال دورتها السبعين، والتي انطلقت في الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر المنصرم، وعلى الرغم من غيابه جسديًا وبدون وجوده في الحيز الجغرافي والمكاني الذي يجمع رؤساء العالم في كل عام، إلاّ أنّ ذكره كان حاضرًا وبقوة من خلال كلمات الوفود التي مثّلت دولها وتناولت بغالبيتها رؤاها للأزمة السورية ودور بشار الأسد في المرحلة الانتقالية التي يتم الحديث عنها.
بعد توقيع الاتفاق النووي الأمريكي - الإيراني، انخفضت حدة اللهجة التي اعتاد المسؤولون الغربيون توجيهها للأسد ونظامه والدعوات التي كانوا يطلقوها بضرورة رحيله وتخليه عن السلطة كشرط أساسي لازم لبدء المرحلة الانتقالية التي تمّ الحديث عنها في جنيف 1 وجنيف 2، فدعا وزير الخارجية النمساوي إلى ضرورة إشراك الأسد في المحور الإقليمي الدولي لمكافحة الإرهاب، ثم تلاه وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند، الذي أكد على ضرورة إشراك الأسد في أي حوار يجري حول المرحلة الانتقالية التي يتم التباحث بشأنها، وحتى الدبلوماسية الفرنسية التي كانت من أعلى الأصوات المناهضة للأسد خففت من تصعيدها، وسارت في الركب الأوروبي الذي بدا وكأنّه ينحو تجاه تعويم نظام الأسد من جديد والتفاوض معه، باعتبار أنّ مصدر الخطر الأكبر هو داعش الذي يقدّم الأسد نفسه كأحد الأطراف الأساسية في حربه والقضاء عليه.
تزيد التطورات الدراماتيكية الأخيرة باشتراك الطيران الروسي إلى جانب الأسد من تعقيدات المشهد السوري المأزوم وتضيّق فرص الحل السياسي سوريًا
الموقف الأكثر انهزاميةً، إذا صحّ التعبير، هو تصريح رئيس الدبلوماسية الأمريكية جون كيري الذي لم يجد غضاضة من بقاء الأسد لفترة محدودة ضمن الفترة الانتقالية التي يُحكى عنها، ضاربًا وقتها بعرض الحائط كلّ التصريحات التي أطلقها هو وباقي أركان الإدارة الأمريكية عن عدم شرعيّة الأسد وضرورة رحيله، كونه قتل وارتكب المجازر بحق شعبه كما كانت تؤّكد تلك التصريحات على طول السنوات الأربعة الماضية.
اقرأ/ي أيضًا: أعتى 11 كذبة للنظام السوري
ونتيجةً للمواقف النكوصية للأوروبيين والانكفاء المعهود الذي طبع السياسة الأمريكية في حقبتها "الأوباميّة"، تشجّعت إدارة فلاديمير بوتين لزيادة دعمها للأسد، فأرسلت العديد من الطائرات الحربية الحديثة لجيش الأسد، وزودته بأنظمة دفاع جوي متطورة وعبرت العديد من سفنها الحربيّة مضيق البوسفور التركي باتجاه السواحل السوريّة، وبلغ عديد قواتها قُرابة الـ1700 جندي يتواجدون داخل مطار حميميم العسكري في الساحل السوري، وهذه الأرقام بحسب الصحافة الروسية نفسها، ما أدى إلى مراجعة في المزاج الأمريكي ومن ورائه الأوروبي حيال دور الأسد ومصيره في المرحلة الانتقالية، والتي قُيل في الآونة الأخيرة إن المباحثات الأمريكية - الروسية قطعت أشواطًا هامة فيه.
عودةً لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي احتّل الملف السوري مكان الصدارة فيها، عادت اللهجة الحازمة والواضحة تجاه بشار الأسد ونظام حكمه طبعًا، وظهر جليًّا أنّ التصريحات والمواقف السابقة من أركان الدبلوماسية الغربيّة لم تكن إلاّ كلام ليل محته النهارات التالية، خطابات اللاعبين الأساسين والمؤّثرين في الوضع السوري كان الشغل الشاغل للمراقبين والمهتمين بالشأن السوري لاستشفَّاف المواقف من خلالها والتدقيق وراء كل كلمة ينطق بها رؤساء الدول أو ممثلو تلك البلدان من على منبر الأمم المتحدة.
بدأ الرئيس الأمريكي أوباما كلمته بدعوات هادئة للجانب الروسي للعمل سويًّا، لإيجاد حل سياسي للأزمة السوريّة وأكد أن بلاده لا ترغب في العودة إلى مرحلة الحرب الباردة التي طبعت علاقة البلدين في القرن الماضي. لكنّ في الوقت عينه شدّد على استحالة القبول بالوضع الذي كان عليه قبل اندلاع الحرب السوريّة، بينما ارتفعت حدة كلامه تجاه رأس النظام عندما وصفه بأنّه "طاغية قاتل للأطفال"، وهاجم الدعوات الآتية من الدول الداعمة للأسد باعتباره الحل الأمثل للخلاص من الفوضى الحالية، مهاجمًا الفرضية القائلة بأنّ الطاغية الذي يلقي البراميل القاتلة للأطفال هو خير من البديل القادم.
اقرأ/ي أيضًا: فالس مع الإرهاب
طالت كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انتقادات واسعة، وتوالت الردود عليها تباعًا، فهو ركز على أنّ القوات الروسية وقوات البيشمركة الكردية والجيش السوريّ هم المحاربين الوحيدين لإرهاب داعش، وهو اقترح تشكيل تحالف دولي واسع على غرار التحالف الدولي الذي شُكّل لمجابهة النازية في الحرب العالمية الثانية، وشدّد بكلامه على أنّ استبعاد حليفه الأسد وجيشه الذي يجابه الإرهاب ببسالة، سيكون خطأ فادحا على حد وصفه، متناسيًا أنّ جيش حليفه يمطر المدنيين السورييّن ليل نهار بأرذل صنوف الموت، متجاهلًا أنّ هذا الجيش البطل استخدم الأسلحة الكيميائية في قتل السوريين كواحدةٍ من أسوء المجازر التي شهدها القرن الحالي.
فرنسا بدورها الرائد وموقفها الصلب تجاه نظام الأسد وضرورة عقابه على جرائمه، كان صوتها قويًا وحازمًا من خلال كلمة الرئيس فرانسوا أولاند، الذي قدّم مقاربةً دقيقة وعقلانيّة للوضع السوري بقوله "وجود تنظيم إرهابي، أي داعش، يرتكب المجازر ويقتل ويغتصب ويدمر التراث الأساسي للإنسانية لا يبرر نوعًا من الصفح والعفو عن النظام الذي تسبب بنشوء هذا الوضع". هذا الموقف الرصين يقفز فوق المفاضلة الخاطئة بين داعش والأسد وتقدير أيّهما الأكثر خطرًا، ومن هو الذي يجب محاربته والقضاء عليه أولًا، وخُلص الرئيس الفرنسي بكلامه لنتيجة منطقية وواضحة وفيها إدراك لرغبات السورييّن "لا يمكننا أن نساوي بين الضحايا والجلاد"، و"الأسد هو أصل المشكلة ولا يمكنه أن يكون جزءا من الحل".
اقرأ/ي أيضًا: موسم الحج إلى موسكو
المواقف العربيّة وكلمات المسؤولين العرب الذين تحدّثوا في المحفل الدولي كانت متباينة مختلفة، فالبعض فضّل عدم الخوض في المسألة السورية أو الفلسطينية وتحدّث بعموميات وقضايا غير مصيرية كرئيس مصر، عبد الفتاح السيسي، الذي لم يتخل عن عادته في خطاباته عندما يجر المنصوب ويجر المرفوع ويمزج الكلمات على نحو لا يعرفه إلا هو. أما البعض الآخر ونتيجة لمحورية دوره وتأثيره على مجريات الأحداث في سورية، فكان موقفه واضحًا وحازمًا تجاه الأسد ونظامه، فكلام ممثل الدبلوماسية السعودية، عادل الجبير، جاء بهذا السياق داعيًا لإزالة الأسد وإزاحته من سدة الحكم بكل الوسائل والطرق المتاحة، عندما أكد بأنّ لا مستقبل للأسد في سوريا وعليه الرحيل إما بعملية سياسية تفضي إلى حكم مرحلي انتقالي أو بعملية عسكريّة تفضي إلى إسقاط نظامه أيضًا.
أما المواقف التركية التي أُشيع عن تغيّرها بعد تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمّحت لإمكانية مشاركة الأسد في العملية السياسية الانتقالية، لكنّ هذه التصريحات وصفت حينها بأنّها محرفة وناتجة عن خطأ بالترجمة، كلام رئيس الحكومة التركية أحمد داوود أوغلو في الجمعية العمومية ركّز على أزمة اللجوء وطالب بإقامة منطقة آمنة محصنة من الهجمات الجوية التي ينفذها النظام والهجمات البريّة التي يشّنها تنظيم داعش، ودعا بكلمته إلى توحيد الجهود في الحرب ضد داعش وضرورة التعاون مع كل الأطراف بما فيها روسيا لإيجاد حل سياسي للمعضلة السوريّة.
كلُّ الخُطب والمواقف المتباينة والمتغايرة تجاه نظام الأسد ودوره المختلف عليه في العملية الانتقالية المرجوة، شتّت وفرّق الإجماع الدولي لمحاربة الإرهاب المتمثل بداعش، فعادت الرؤى مختلفةً وظهر البون الشاسع في مواقف الأطراف المؤثرة والتي تملك مفاتيح الحل في سوريا، وممّا لا شك في أنّ التطورات الدراماتيكية الأخيرة باشتراك الطيران الروسي إلى جانب الأسد وشنّه غارات على مناطق مدنية في ريف حمص الشمالي تخلو من أيّ تواجد لداعش ستزيد من تعقيدات المشهد السوري المأزوم وتضيّق فرص الاتفاق في الوصول لحل سياسي للمشكلة السوريّة ومواجهة الإرهاب الذي يرى الغرب أنّ الأسد سببهُ فيما يرى الروس وأتباعهم أنّ الأسد وجيشه هم الوحيدون القادرون على مقارعته والقضاء عليه.
اقرأ/ي أيضًا: سوريا.. وداع الدولة الوطنية