أن تعيش في العراق فهذا أمر سهل، لكن أن تكون عراقيًا فالأمر صعب جدًا، لأنك ببساطة لن تكون عراقيًا بسهولة وسط زحمة الانتماءات التي دفعت باتجاه تجريد الهوية الجامعة واتجهت نحو هويات متصارعة، لا نتيجة منها سوى إنهاء عراقيتك ودفعك بإتجاه زاوية ضيقة، كل ما فيها لا يقبل الآخر المختلف.
في العراق كما سواه، أصبح أولئك الذين كانوا يتبجحون بحب الوطن والانتماء أساسًا في خرابه
ما لم يكن متوقعًا حدث، وأصبح أولئك الذين كانوا يتبجحون بحب الوطن والانتماء، أساسًا في خرابه، وأولئك المتهمون بشتى التُهم الملفقة، هم الساعون للحفاظ عليه وعلى هويته الجامعة. لكنهم بنتيجة الحال، أصبحوا أقلية تعيش مع أكثريات الأحزاب والقوميات والمذاهب، وربما مهددين بالزوال.
الانتماء إلى الأقلية العراقية في العراق يعني أنك ستواجه خصمين، يشتركان في استهدافك مهما كانت الخلافات بينهما محتدمة. ربما أكثر من خصمين ستكون أنت العامل المشترك بينهم، وقد يتفقون على التحالف ضدك وإضعافك قبل العودة لصراعاتهم المذهبية والقومية والدينية.
كثير من العراقيين بعد عام 2003 ترسخت في عقولهم أفكار زرعتها الأحزاب العراقية دون استثناء، ووعاظ السلاطين، والمقاولين بالدين، تمثلت بأهمية "الحفاظ على الدين" و"منع الفرس من حكم العراق" و"منع البعث من العودة للسلطة" و"نصرة الإسلام" و"حتى لا يُظلم الكرد من جديد" و"نحن أقلية ومستضعفين" و"حزبنا هو الحل للعراق" و"نحن وحدنا القادرون على حكم وحماية البلاد".. إلخ إلخ من الشعارات الرنانة التي أخذت العراقيين من عراقيتهم إلى خانات ضيقة لا نفع منها.
"الأقلية العراقية" التي تحاول الحفاظ على عراقيتها، لم يرض عنها أحد. صعب جدًا أن تتحدث بعراقية وسط كم من الإفراط بالإنتماءات الأخرى، فإذا ما انتقدتَ عضوًا صغيرًا في أي حزب أو شخصية مُعلنة الولاء لجهة ما، فأنك ستكون نقطة تُصوب وتُفرغ عليها هتافات المطبلين والمتملقين والزاحفين وراء باج الحزب (هوية الحزب التعريفية).
الأكثرية المنتمية للحزب والدين والمذهب، لا يشغلها الخراب الذي يعيشه العراق، المهم أن تُصارع مجموعتها من أجل البقاء والوصول للسلطة بأسرع وقت وأقصر طريق. على العكس منهم، تلك الأقلية الحالمة بعراق وردي، يكون صوت الدولة هو الأعلى، ويكون فيه الجميع متساوين دون تمييز.
لا مجال للعراقيين اليوم سوى الانضمام للأقلية العراقية في العراق، ليتكاثروا ويصبحوا قوة حقيقية تجمعهم هوية وطنية
المنتمون للأكثرية المؤدلجين ضد "عراقيتهم" السابقة، إذا ما وصل الخراب لغرف نومهم فإنهم لن يُفكروا لحظة بسبب الخراب، ولن يفكروا ماذا فعلت الجماعة التي ينتمون لها، المهم أن يكونوا ضمن إطار حزبي أو ديني أو مذهبي، يُسهل عليهم بعض "العراقيل" الحياتية، التي صنعها انتمائهم لجماعات تسعى لإنهاء وجود الدولة العراقية. أما أولئك الحالمون بالعيش في وطن يكون الإنسان فيه مُقدسًا، يحاولون رفع صوتهم وسط ضجيج التطرف والأحقاد والعقلية ذات الاتجاه الواحد، لعلهم ينعمون بعراق يعود إليه أبنائه مثلما كانوا، مهما كانت إنتمائاتهم، ليكون هويتهم الجامعة.
لا مجال للعراقيين اليوم سوى الانضمام للأقلية العراقية في العراق، ليتكاثروا ويصبحوا قوة حقيقية تجمعهم هوية وطنية، ولهم حق الانتماء والتفاخر بالدين والمذهب والقومية والحزب، على أن لا يعلو شيء هويتهم الأساس، ولا تُفرقهم الخلافات التي أنتجتها الانتماءات الأخرى.
ستبقى هذه الأقلية نقطة بيضاء وسط لوحة من سخام التمييز والتفرقة ونبذ الآخر وإنشاء دول داخل الدولة، وبروز زعامات تُفرق ولا تجمع، وجماعات تغرف من أنهر عدة، ورؤوس أموال تقوي بقائها بدعم كل ما يُضعف الدولة، ورجال دين يُكفرون الآخر، وقوميون فاشيون، ومذهبيون عنصريون، ومتدينون ذات أفكار رجعية.
هؤلاء جميعًا يحاولون اضطهاد الأقلية العراقية في العراق، ليقووا عود التفرقة والتناحر والخلافات، لكن هذا لن يطول أمده، ففي يوم ما ستكون هذه الأقلية أكثرية، وتتحول إلى مجتمع يتفق على المشتركات، ويترك ما عداه خلف ظهره.
اقرأ/ي أيضًا: