منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر بدا العالم مستعدًا أكثر من أيّ وقتٍ مضى لاستدخال مفهوم "الإرهاب" في لغته السياسيّة والاصطلاحيّة. قبل ذلك لم يكن أحدٌ معنيًا باعتمادِ تعريفٍ للمفهوم يترتب عليه آثارٌ سياسية أو قانونيّة، فسياسيّو العالم كانوا يعرفون بأن المصطلح إشكاليّ بالفعل ولا يمكن فصله عن السياسة وعن الأهوال الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تعصف بحياةِ البشر.
لم تكن الحرب الباردة في الواقع سوى حرب الإرهاب والإرهاب المتبادل
في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم فشلت الأمم المتحدة باعتمادِ تعريفٍ للإرهاب ينصّ على "أيّ استخدامٍ منّظمٍ للعنف لأهداف سياسيّة"، فمن شأن هذا التعريف الفضفاض أن يعتبر أغلب الدول الكُبرى (وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي) إرهابيّة. ففي مرحلة الحرب الباردة كان العنف السياسيّ الذي ينطوي على قتل المدنيين وترويعهم هو الوسيلة الأكثر فعاليّة من وسائل ممارسة السياسة الخارجيّة وقلب الأنظمة السياسيّة المعادية أو تحييدها، ولم يكن يجري ذلك بدعم وتمويل ميليشياتٍ المعارضة فحسب، بل بإيفاد عصاباتٍ مخابراتيّة متخصصة بالقتل وإثارة الفوضى وبالتسبب بحروبٍ أهليّة. لم تكن الحرب الباردة في الواقع سوى حرب الإرهاب والإرهاب المتبادل.
ولكننا إذا ما عُدنا بعيدًا في التاريخ سنجد قصة غريبةً ومغايرة للتطوّر التاريخيّ للمفهوم. فالإرهاب هو بالأصل مصطلح ثيولوجي مشتقٌّ من عبارات التهديد والوعيد التي تتناثر هنا وهناك في الكتب السماويّة. ويَنْدر في العهدين القديم والجديد العثور على المصطلح دون أن يكون مصدره الله أو أحد ممثليه من الرُسلِ أو المُلوك أو الأولياء الصالحين. فالله في التوراة مشهورٌ بإرهابِ أعداء بني إسرائيل عن طريق الأمراض أو الكوارث الطبيعية، وهو أيضًا قد يسلّط الإرهاب على اليهودَ أنفسهم إن عبدوا غيره بواسطةِ الأعداء القُساة المُرعبين. وفي القرآن أيضًا نجد لفظ "الرعب" كما ورد في الآية الكريمة: "وقذفَ في قلوبهم الرّعب" الذي يوازي لفظ الـ(terrorem) باللاتينيّة والتي فضّلت الأناجيل العربيّة ترجمته إلى "الخَوْف".
في جميع تلك الحالات لم يكن للإرهاب، في العالم القديم، دلالة لا سلبيّة أو ايجابيّة، فالإرهاب هو لفظٌ محايد، هو عقوبة يمارسها الله عبر الأخيار أو الأشرار أو مباشرةً بواسطةِ الطبيعة، وهو بحكم تعريفه عقوبةٌ جماعيّة، ففي حروب العالم القديم لم يكن التمييز بين المحاربين وغير المحاربين قد تبلورَ بعد. (وكأنَّ الحروب الحديثة معنيّة أصلًا بهذا التمييز).
في نهايات القرن الثامن عشر قامت الثورة الفرنسيّة بعَلْمنة مفهوم "الإرهاب"، أي نَزْعهِ من ممثلي الله (الملك تحديدًا) ومنحه إلى ممثلّي الشعب. وفي المرحلة التي أطلق عليها إدموند بيرك "عهد الإرهاب" خطب ماكسميليان روبسبير في المؤتمر الوطني للثورة قائلًا: "إن كانت الفضيلة هي أساسُ الحكومة الشعبيّة في وقت السِّلمِ، فإنَّ الفضيلة والإرهاب هما أساس حكم الشعب في وقتِ الثورة".
أعادت 11 أيلول/سبتمبر وصْلَ ما انقطع منذ الثورة الفرنسيّة؛ إذ عاد الإرهاب إلى أصله الميثولوجيّ: عنف الله على الأرض
ومع أنَّ شكل الإرهاب الذي صاغته الثورة الفرنسيّة قد شكّل الأساس المعنوي للمراقبة والمعاقبة بمفهومها الفوكويّ، فقد بدا أنَّ أعداء الثورة الفرنسية الأوروبيين قد تلقفوه لاحقًا ليسبغوه على أيّ تمرّدٍ أو ثورةٍ محليّة ضد المَلكيات العجوزة (كالعصيان الإيرلندي الكبير عام 1798 ضد الحكم البريطاني)، كان ذلك استنادًا إلى خطابٍ سياسيّ حاول المُحافظون ترسيخه يصوّر النزعات الجمهوريّة والقوميّة على أنّها مصدرٌ للخوف والإرهاب في مقابل التاج الملكيّ الذي يمثّل "نعمة الأمن والأمان".
بقي مفهوم الإرهاب ضبابيًا طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، وعلى الرغم من أنّه اكتسب الضمير ism- (أي تحوّل من صِفة terror إلى اتجاه terrorism) فإنَّ الدول الحديثة تجنبّت في عهديّ الاستعمار والاستقلال اعتماد تعريفٍ له. فإن كان معيار تصنيف الإرهاب هو استهداف المدنيين فإن الدولة الحديثة، في الحقيقة، هي صاحبة هذا اللقب بلا منازع. وحتى تلك المحاولات من قبل محامي سيادة الدول لإسباغِ صفة الإرهاب على المجموعات والمنظمات غير الدولتية جابهتها مفاهييم أخرى مثل "العنف الثوريّ"، ثمَّ "المقاومة" التي صكّتها حركات التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار، وعبّرت عن حق الجماعات والتنظيمات تحت الدولتية باستخدام العنف كوسيلة لتحقيق حقوقها المشروعة. وَحدها إذًا السياسة كانت وما تزال صاحبة الحق بتمييز ما هو سيء وما هو حَسَن.
حتى مطلع الألفيّة الثالثة بقي استخدام مصطلح الإرهاب محدودًا جدًا ولا يُحيلُ إلا إلى معنىً ضبابيّ. وباستثناء الولايات المتحدة التي تمسكّت بالمُصطلح في قوانينها الفيدراليّة كبديلٍ عن سياسات "المكارثية" واستعملته بطريقةٍ فضفاضة ليشمل كلّ من يخالف سياساتها، فإنَّ أحدًا ما لم يتناول المفهوم بجديّة، ويُقال- من باب التندّر- أنَّ مُستخدِمَ لفظَ الإرهاب/الرُعب (terror) في أوروبا إما كان عاشقًا لأفلام هوليوود أو قارئًا جيّدًا للكتاب المقدّس.
وحتى الدول التي حاربت عناصرَ من تنظيماتٍ مُسّلحة نادرًا ما كانت تصفهم بالإرهابيين، ففضلًا عن أنَّ المُصطلح اتسّم بالغموض، فإنّه أوحى للمُتلقّي بأنَّ صاحبه ذو قدراتٍ خارقة، وهو آخر وصفٍ يرغب أحدهم بإسباغه على خصومه. وبدلًا من ذلك استخدمت أغلب الدول ألفاظًا أكثر تواضعًا مثل "عصابات" أو "مجرمين" أو حتّى "مخرّبين". واللفظ الأخير كان المُحبب لدى إسرائيل لتجريمِ فدائيي منظمة التحرير الفلسطينية ولاحقًا مقاتلي حزب الله وحماس.
مثّلت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر قبلة الحياة لمفهوم الإرهاب. فبالنسبة للغرب، أعادت الهجمات الدمويّة وصْلَ ما كان قد انقطع منذ الثورة الفرنسيّة. فقد عاد الإرهاب ليرتبط بأصله الميثولوجيّ: عنف الله الرهيب على الأرض. وفي الواقع فقد كان مسرح عمليّات نيويورك مثاليًا لبعث الأسطورة من رمادها: تسعة عشر مهاجمًا لا يدفعهم سوى الإيمان يقتحمون ناطحات السحاب بطائراتٍ ملئها النّاس والوقود ولا همَّ لهم سوى سفكِ دماء أكبر عددٍ ممكنٍ من الضحايا. لقد كانت 11 أيلول مرعبة فعلًا حتى بمقاييس الخيال والأسطورة.
ليس البديل لمواجهة الحملة (الإرهابيّة) لمكافحةِ الإرهاب سِوى فكِّ تشفير المُصطلح ذاته
ولكن ما هو أكثر هَوْلًا، أو قُلْ أشدَّ إرهابًا، هو تصنيم المُصطلح، فبعد أن كان العُنف الإسلاميّ نموذجًا، أصبح هو النموذج. وبات الإرهاب عنوانًا لزمنٍ جديد يتسلّق عليه عتاة المحافظين الجدد واليمين الأوروبيّ وأنظمة الاستبداد وبالطبع إسرائيل. وليسوا قلّةً من لاحظوا بأنَّ أغلب قوانين مكافحة الإرهاب صُممت أساسًا لكبحِ فاعليّة حركات حقوق الإنسان التي بشّر بها عصر العَوْلمة، كما أنّ العديد من الباحثين بيّنوا أنَّ جهود مكافحة الإرهاب غالبًا ما تشدد على الطبيعة العابرة للحدود للظاهرة على الرغم من أنَّ أغلب الحوادث مَصدرها بيئاتٍ محليّة. فلم يكن للتطرّف وللعنف الدينيّ أيّ حظٍّ للانفلات لولا السياسات النيولبراليّة التي واصلت افتراس مُهمّشي المُدن وطحنهم في عجلات الإنتاج العالميّة.
ليس البديل لمواجهة الحملة (الإرهابيّة) لمكافحةِ الإرهاب سِوى فكِّ تشفير المُصطلح ذاته، أيّ إعادة تعريفه بما يشملُ كلّ عقوبةٍ سياسيّة ذي طبيعةٍ جماعيّة. فحريٌّ بمثلِ هذا التعريف ألا يقتصر على "مجانين" باريس فحسب، بل أن يشمل أيضًا "عُقلاء" الحصار الجماعيّ والطائرات بلا طيّار وسّفاحي الإف-16 والبراميل المتفجّرة. بهذه الطريقة يمكن قفْلَ دورةِ حياة المفهوم وجعلهِ مقبولًا لدى الجميع.
اقرأ/ي أيضًا: