يعتبر التّسوّط أو التّطبير، مادّةً جدلية سنوية عند حلول ذكرى عاشوراء من كل عام. ضرب الرّؤوس بالأدوات الحادّة والسّلاسل، لطم الصّدور وغيرها من الممارسات التي سميّت شعائر حسينية، هذه الممارسات التّي لم تقتصر على الكبار فقط، بل يقع الأطفال ضحيّتها أيضًا.
يبرّر أحد الخطباء، في دفاعه عن بدعة ضرب الرّؤوس بالآلات الحادّة، فعل التّسوّط بضرب السّيدة زينب رأسها بطرف المحمل عند رؤية جثمان الحسين، حتّى سال الدّم على وجهها. زينب التّي شكّلت الرّافعة الإعلامية للقضية الحسينية، أيعقل أن تضرب رأسها بالمحمل حزنًا حتّى أدمت نفسها؟، في مخالفة واضحة لوصية الحسين لها، حيث أوصاها قائلًا: "لا تشقّي علَيَّ جيبًا، ولا تخمشي عليَّ وجهًا، ولا تدعي علَيَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت". أتخالف زينب وصية الحسين وتضرب رأسها حتّى تُدمي نفسها؟ هنا تبرز الإشكالية الأولى الأساسية التّي تدحض الرّواية التّاريخية السّائدة معدومة السّند أصلًا، زينب لم تضرب رأسها.
يُنسب التّطبير تاريخيًا أو ضرب الرّؤوس بالآلات الحادّة للشّعوب القديمة
يُنسب التّطبير تاريخيًا، أو ضرب الرّؤوس بالآلات الحادّة للشّعوب القديمة. حيث مثّل التّطبير عادةً وثنية اعتمدها البابليون في تعبيرهم عن حزنهم على مقتل الإله تمّوز، وتناقلت الشّعوب عادة التّطبير حتّى وصلت إلى الفينيقيّين، الذين استعملوها في تعبيرهم عن حزنهم على أدونيس، ومن بعدهم الفراعنة. استمرّت ظاهرة التّعبير عن الحزن باللطم وضرب الرّؤوس بالآلات الحادة، ورُبطت بالحزن على الحسين ومأساته في منتصف القرن التاسع عشر وصولًا إلى أيامنا هذه.
وتعود جذور التّطبير إلى ممارسات للوثنيين في الشّرق الأدنى كطقوسٍ كما يذكر العهد القديم. كانوا فيها يضربون رؤوسهم وظهورهم بالسّيوف والرّماح، في حين أن فئةُ من المسيحيين يسمّون أنفسهم بالجلّادين ظهرت في العام 1210 للميلاد. اعتمدوا ضرب صدورهم ورؤوسهم كوسائل للتوبة عن الخطايا وتطهير النّفس من ذنوبها. عاشت هذه الطّائفة في القرن الثّامن عشر وضمّت كثيرين من الفرنسيين، البولنديين وغيرهم.
لم يغب التطّبير عن الهندوس أيضًا: رجالاً ونساءً كانوا يمارسون طقوسه، إضافةً إلى ضرب الجسد بالسّلاسل. التّطبير، رغم أصله التّاريخي يعتبر فعلًا جديدًا مستحدثًا عند الشّيعة، حيث وصلتهم هذه الممارسات من الهنود والأتراك الشّيعة الذين حملوا معهم هذه الطّقوس إلى كربلاء. طقوس كالتّطبير، الضّرب بالسّلاسل والزّحف حتّى إدماء الوجه. يزعم المؤرّخ إسحاق نقّاش، في كتابه “شيعة العراق”، أن أول من أدخل التّسوط أي ضرب الجسد بالسّلاسل وشق الرّؤوس بالسّيوف إلى النّجف الأشرف في العام 1919، هو الحاكم البريطاني الذي خدم سابقًا في كرمنشاه/ ونقل الممارسة إلى العراق عبر الهنود الشّيعة، بهدف إضعاف الحوزة حينها، وكشفت بريطانيا عن ذلك في العام 1970 في كتاب "دليل الخليج" لمؤلفه ج. لوريمر.
إن التطبير والطبل عادات ومراسم جاءتنا من أرثوذكس القفقاز وسرت في مجتمعنا كالنار في الهشيم
ينقل المفكّر علي شريعتي في كتابه "التّشيّع العلوي والتّشيع الصّفوي" أن إسماعيل الصّفوي استحدث وزارة خاصةً بالشّعائر الحسينية، وطلب من وزيرها السّفر إلى روما للاستفادة من الشّعائر الدينية ونقلها، فنُقلت شعائر الجلّادين إلى شيعة إيران الذين مارسوها أثناء زيارتهم الإمام علي بن موسى الرّضا. هذا ما يؤكّده الشيخ مرتضى المطهري في كتابه "الجذب والدفع في شخصية الإمام علي(ع)": "إن التطبير والطبل عادات ومراسم جاءتنا من أرثوذكس القفقاز وسرت في مجتمعنا كالنار في الهشيم، والقفقاز هي منطقة القوقاز بين أوروبا وآسيا".
حالت المناوشات بين الحوزة والعثمانيين، ثم تهديد الوهابيين من العام 1902 إلى العام 1922، وانشغال العلماء بمواجهة الاحتلال البريطاني دون محاربة هذه البدع، ومن ثم مجيء أنظمةٍ حاكمة طائفية خاصّة في العراق، مما سمح لممارسات مثل التّطبير، التّسوّط والزّحف بأخذ مكانها كشعيرة من الشّعائر الحسينية. لكن هذا لم يمنع العلماء من محاربتها، في العام 1920 أصدر المراجع والعلماء أبو الحسن الموسوي الأصفهاني في النّجف الأشرف،السّيد مهدي القزويني في البصرة والسّيد محسن الأمين العاملي فتاوى تحرّم التّطبير وإراقة الدّماء في مظاهر الحزن على الحسين.
كلّفت هذه الفتاوى السّيد أبو الحسن الأصفهاني حياة ابنه حسن الموسوي الأصفهاني، حيث قتله أحد زعماء تكايا التّطبير حينها، علي القمّي، ورمى برأسه في حجر والده أثناء صلاة الجماعة بتهمة الحرب على الشّعائر الحسينية!
اقرأ/ي أيضًا: عاشوراء في بيروت.. الموضة والطقوس
التّحريم لم يقتصر فقط على هؤلاء العلماء، أيضًا صرّح السّيد محسن الحكيم بأن: "هذه الممارسات (التطبير) ليست فقط مجرد ممارسات… هي ليست من الدين وليست من الأمور المستحبة، بل هذه الممارسات أيضًا مضرّة بالمسلمين، وفي فهم الإسلام الأصيل وفي فهم أهل البيت عليهم السلام ولم أر أيًا من العلماء عندما راجعت النصوص والفتاوى يقول بأن هذا العمل مستحب يمكن أن تتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، إن قضية التطبير هي غصة في حلقومنا"، أمّا السيد أبو القاسم الخوئي فيقول: "لم يرد نص بشرعيته فلا طريق إلى الحكم باستحبابه"، بينما اتخذ السّيد محمّد باقر الصّدر موقفًا حازمًا من التّطبير وقال: "إن ما تراه من ضرب الأجسام وإسالة الدماء هو من فعل عوام الناس وجهالهم، ولا يفعل ذلك أي واحد من العلماء بل هم دائبون على منعه وتحريمه".
أما إدراج بدعة التّطبير تحت بند "الجزع في الحزن على الحسين" فهو مغالاة وإساءة لطابع السّيرة والثّورة الكربلائية، لا مرجع تاريخي للتّطبير أو حادثةٌ دينيةٌ مثبتةٌ باستثناء كونها عادةً قديمة عند بعض الشّعوب، ولنتمعن اليوم بفوائد التّطبير ومضاره مقارنين إياها بعضها ببعض. تتفوق المضار في الميزان على الفوائد، بدل رمي الدّم على الأرض، تبرعوا به حبًّا بالحسين وذكراه. ينشد الملّا باسم الكربلائي هذا البيت:"رأسك هذا الذي تطبّر لا رأسي"؟ صحيح يا ملّا، لكن سيرة كربلاء تمثلنا جيمع المظلومين، باختلاف معانيها الثورية، الاجتماعية، المجتمعية، الحياتية والإنسانية قبل الدّينية. اضرب رأسك ما شئت لكن لا تضربه باسمي، ولا تشوّه بدمك ثورة الحسين، ولا تخطّ بهذا الدّم دعائم الجهل.
اقرأ/ي أيضًا: بغداد تتشح بالسواد