تحت صوت النار على وقع معركة "تحرير سرت"، صادقت لجنة صياغة الدستور الليبية خلال الأسابيع الماضية على دستور البلاد المنتظر عرضه على الاستفتاء الشعبي في الفترة القادمة. وهو دستور لطالما انتظره الليبيون منذ الإطاحة بنظام معمّر القذّافي، حيث كان من المفترض أن يتمّ انتخاب أعضاء لجنة الستّين المكلّفة بصياغة الدّستور منذ سنة 2012 وهو ما لم يتمّ إلا في بداية سنة 2014.
حدّد الدستور الليبي الجديد طرابلس عاصمة للجمهورية ليحسم في واحدة من أكثر النقاط إثارة للجدل
كما تعطّلت لاحقًا مداولات صياغة الدّستور بين مقاطعة بعض المكونات العرقية من جهة وانهيار خارطة الطّريق بعد اندلاع المعارك إثر انتخابات مجلس النواب من جهة أخرى. كما عرف مسار إعداد دستور ليبيا مخاضًا عسيرًا بسبب حدّة الخلافات في ملفّات مصيرية. وقد أشرفت الأمم المتحدة في الفترة الأخيرة على جولة مفاوضات بين أعضائه في مدينة "صلالة" بسلطنة عمان انتهت بالمصادقة على النّسخة النهائية للدّستور.
اقرأ/ي أيضًا: مسوّدة دستور ليبيا تحت المجهر
ليبيا جمهورية.. والعاصمة طرابلس
أرسى الدّستور النظام الجمهوري للدولة التي أصبحت تُسمّى "الجمهورية الليبيّة". وقد كانت تُعرف ليبيا سابقًا باسم "الجماهيرية" وهو نظام فريد في العالم أرساه العقيد معمر القذافي سنة 1977 وحكم به البلاد قبل أن تسقطه الثورة الليبية سنة 2011.
وعين الدّستور طرابلس عاصمة للجمهورية ليحسم في واحدة من أكثر النقاط إثارة للجدل، وذلك باعتماد عاصمة واحدة فقط للدّولة، إذ سبق وأن نصّت المسودّة الأخيرة التي تمّ إصدارها بداية السّنة الجارية على إحداث ثلاث عواصم وهي طرابلس عاصمة سياسية، وبنغازي عاصمة اقتصادية، وسبها عاصمة ثقافية، وهو ما رفضه نوّاب المنطقة الغربية ليتمّ التفاوض حول ملفّ العاصمة من جديد في محادثات "صلالة" التي انتهت بالعودة لاعتماد عاصمة واحدة.
ورغم التّراجع عن اعتماد ثلاث عواصم للدّولة، أكّد الدّستور اعتماد مبدأ لامركزية مقرّات المؤسسات السيادية للدّولة. حيث حُدّد مقرّ السلطة التنفيذية في العاصمة، في حين سيستقرّ البرلمان في مدينة بنغازي، فيما ستحتضن مدينة سبها مقرّ المحكمة الدستورية.
انتخاب رئيس الجمهورية ليس بالأغلبية فقط!
اعتمد الدستور نظامًا رئاسيًا حيث تتكوّن السلطة التنفيذية من رئيس للجمهورية وحكومة يعيّنها. ونصّ على طريقة خاصّة لانتخاب الرئيس، حيث لا يقع انتخابه بالأغلبية العددية فقط بل كذلك بالأخذ بمعيار الجغرافيا. ويأتي هذا الخيار لضمان التوزيع الجغرافي للمقترعين الذين انتخبوا رئيس البلاد.
ومن المعروف أن أكثر من نصف الليبيين يعيشون في منطقة غرب البلاد فيما يعيش البقية في شرق البلاد وجنوبها. ونظرًا لفاعلية العامل الجهوي والقبلي في ليبيا، ولضمان عدم حتمية أن يكون رئيس البلاد من منطقة الغرب، تمّ اعتماد هذا الخيار المميّز.
ومن المنتظر أن يثير القانون الانتخابي في هذا الجانب جدلاً واسعًا، ولذلك تفادى الدستور تناول تفاصيل هذا الخيار على عكس مسودّة الدستور السابقة. حيث نصّت هذه المسودّة بخصوص انتخاب أول رئيس للجمهورية على تقسيم كل منطقة من المناطق الثلاث إلى أربع دوائر انتخابية، ويفوز رئيس الجمهورية الذي يتحصل على أغلبية المقترعين في ثلثي الدوائر ثم نصفها. واعتمدت معيار التمثيل الجغرافي للمرور للدورة الثانية.
وبينما يشدّد المؤيدون لهذا الخيار على أن الأخذ بالمعيار الجغرافي إضافة للمعيار السكاني يمثل عاملًا مدعّمًا للوحدة الوطنية، يؤكد رافضوه أنه يكرّس التّمييز الجهوي ويخلّ بمبدأ المساواة بين المواطنين بحيث أن صوت الناخب في شرق البلاد أو جنوبها هو الأكثر تأثيرًا من صوت الناخب في غرب البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: المحاصصة المناطقية في ليبيا.. الخطر الأكبر
برلمان وفق النموذج الأمريكي
يتكوّن البرلمان الليبي واسمه مجلس الشورى من غرفتين هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ وذلك باستنساخ النموذج الأمريكي تسمية وتركيبة إجمالًا
يتكوّن البرلمان واسمه مجلس الشورى من غرفتين هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ وذلك باستنساخ النموذج الأمريكي تسمية وتركيبة إجمالًا. حيث يتمّ انتخاب المجلس الأوّل وفق المعيار السكاني مع مراعاة التوزيع الجغرافي، في حين يتمّ انتخاب المجلس الثاني بتوزيع متساو للأعضاء بين الأقاليم الثلاثة. حيث يتكوّن مجلس الشيوخ الليبي من 72 مقعدًا بتفصيل 24 مقعدًا لكل إقليم.
وعلى مستوى الصلاحيات، يتمتع مجلس النواب بالصلاحيات الأصلية للسلطة التشريعية من سنّ للقوانين ورقابة على السلطة التنفيذية. وفي المقابل، يمارس مجلس الشيوخ اختصاصات تشريعية في 6 مواضيع محددة أهمها قانون المالية، والحكم المحلي، والانتخابات والثروات الطبيعية. وكانت مسودّة الدستور السابقة منحت هذا المجلس اختصاصات أخرى تمّ حذفها في المشروع النهائي.
اللّامركزية الموسّعة وليست الفيدرالية
اختار المؤسسون في ليبيا نظام حكم محلّي يقوم على اللّامركزية الموسّعة في حسم لواحدة من أكثر الخيارات إثارة للجدل، إذ يأتي هذا الخيار كحلّ وسط بين نظام المركزية والنظام الفيدرالي الذي تطالب به قوى في شرق البلاد. وقد سبق وأن تم إعلان إقليم برقة، شرق البلاد، كإقليم فيدرالي من جانب واحد سنة 2013 ولكن فشلت المبادرة. وينظر الليبيون عمومًا للنظام الفيدرالي كبداية لانفصال البلاد وتقسيمها وهو ما جعل مطلب اعتماد النظام الفيدرالي لا يلقى دعمًا في الشارع الليبي بما في ذلك في برقة.
وقد شدّد الدستور على مبدأ وحدة الدّولة بالتوازي مع تنصيصه على اللامركزية كتنظيم إداري معتمد. وتنقسم الدولة بموجب هذا النظام، إلى محافظات وبلديات ووحدات إدارية أخرى سيتمّ انتخاب أعضائها من المواطنين. وإضافة للموارد المركزية، تتمتع هذه الوحدات بموارد ذاتية تتأتى من رسوم وجزاءات وضرائب محليّة. وتأكيدًا على خيار اللامركزية، حدّد الدستور مدينة سبها، جنوب البلاد، مقرًا للمجلس الاستشاري للحكم المحليّ الذي يتكوّن من محافظي البلاد.
وتبقى الخطوة العملية الموالية لتفعيل أحكام هذا الباب في تقسيم البلاد لوحدات إدارية، وهو تقسيم سيمثل تحديًا لليبيين في المستقبل، وهو ما استبقه الدستور بالتنصيص على معايير منها الأمن الوطني والعوامل التاريخية مع الإشارة للسلم والوئام المجتمعي كعناصر يجب اعتمادها في التقسيم الإداري.
اقرأ/ي أيضًا: