"إن الشتائم في حد ذاتها هي سلاح يبتدعه الإنسان المغلوب على أمره ويستخدمه في تكتيكات التعبئة المعنوية التي تسبق انبثاق العنف الثوري". لعلّ كثيرين يرون في مقولة غسّان كنفاني هذه، تبريرا لبعض التصرّفات التي تحتمل الصواب والخطأ في آن معًا حسب الأفراد المتلقّين. لكن الكاتب الفلسطيني كان يقصد شيئًا آخر قطعًا.
يسيطر موضوع تداول "الألفاظ البذيئة" والشتائم على الصفحات الشخصية لكثير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يومًا بعد يوم. إذ نجد استسهالًا واضحًا في كتابة هذه الألفاظ دون الانتباه إلى أن المجتمع الافتراضي ليس حكرًا على الشباب والبالغين، بل صار للأطفال، تحديدًا، مساحات خاصّة فيه، ما سيؤثّر عليهم بطريقةٍ أو بأخرى. وثمّة من لا يجدون أي حرج في إحداث أزمة أخلاقيّة كون الأمور ومجريات الأحداث الجارية يوميًّا في البلدان العربيّة لا يمكن التعبير عنها إلا هكذا، برأي الكثير من المنفعلين، أو الذين ينتمون إلى خلفية ثقافية "متحررة" نوعًا ما.
الناشط على فايسبوك، كرم شحادة، يعتقد أنه لا يخفى على المتابع شيوع استخدام البذاءة، واستعمال الفُحش في الكلام عِوضًا عن التعفّف والتأدّب في الحوار.. "ولا أظنّ أنّ هذه "الظّاهرة" كانت متأصّلة في نفوس أصحابها، بقدر ما كانت تقليدًا لمستخدمين سبقوا وأسّسوا ما يُشبه العُرف في التّعامل مع مواقع ما يُسمّى "التواصل الاجتماعي". ويضيف أنّه ليس أبلغ من هذه الظاهرة للدلالة على الزّمن الرديء الذي نعيشه، حيث أضحَت فيه الألفاظ البذيئة، والشتائم النابية دليلاً على التحرّر، وشاهدًا على الانعتاق من قيود المجتمع الذي - بأغلبه الأعمّ - يرفض هذه السّلوكيّات بشكل ظاهري على الأقل.
يرى شحادة أن أسوأ ما في هذه الظّاهرة هو الاعتياد عليها
ويرى شحادة أن أسوأ ما في هذه الظّاهرة، ربّما، هو الاعتياد عليها، فيذكر كيف صُدم أول ما رأى، حينما قرأ شتيمة، وما جرى من اعتياد على ذلك مذّاك وحتى اليوم. ويلفت: "لم يعد هذا الأمر عيبًا رغم أنّه كان وسيبقى كذلك بنظري. لقد أصبح مألوفًا لا يبعث على الدّهشة، دارجًا مُعتادًا لا يُثير السّخط والحَنَق. هو في الحقيقة تعبير بالغ الدلالة عن هذا الزّمن الرديء."
بينما محمود أبو ندى وهو أحد الأفراد الذين يتّجهون أحيانًا إلى اتباع سلوكيات الشتم على وسائل التواصل لاجتماعي، يقول: "لا أرى أي مشكلة أو غضاضة في استخدام الشتائم في سياقات معينة، الشتائم والسخرية آخر الأسلحة القليلة في أيدي المغلوبين على أمرهم، الأسلحة الوحيدة ربما كانت ولا تزال، أسلحتهم في مواجهة من ينغصون عليهم معيشتهم"، إذ يشير إلى أنّ هذا "السلاح" باستطاعته انتزاع الخوف من قلوب مستخدميه، كما له القدرة على إزالة أي هالةٍ وتفتيت أي قداسة عن كل شخصية وقضية تُمنح أي درجة من درجات التقديس.
ويشرح أبو ندى أن "لكل شخص الحق بشتم أي فرد يتولى منصبا عاما، هذه بديهيات وضرائب عليهم، الضرائب الوحيدة في الحقيقة في ظل غياب المحاسبة، أيًا كانت هوية تلك الشخصيةِ وانتماؤه فالشتائم هي إحدى أدوات الاحتجاج على السياسات أيًا كانت." كما يرى أن"الكثير من الذين يشعرون بالإهانة من "الشتيمة"، لا يشعرون بالمقابل بالإهانة من القتل والقمع والممارسات الدكتاتورية، بل مستعدون في كل وقت لتبريرها، هم فقط يشعرون بالإهانة من بعض الحروف".
فيما تعلّق عبير أيوب: "أنا من الأشخاص اللذين يميلون لكتابة كل ما يضايقهم في المجتمع على وسائل التواصل الاجتماعي كونها مساحة حرّة وواسعة"، وتقول إنّها تمارس كتاباتها بطريقة لطيفة من خلال انتقاء "الشتائم" بلغة الشارع، كونها تفشل في كتاباتها بالعربي الفصيح. وتكمل: "أنا أكتب بلغة الشارع ولا أجد حرجًا في ذلك، في كتابة مسبات ضمن المعقول ولا تخدش الحياء".
تشعر عبير أن انتقاد الناس لها إزاء منشوراتها التي تحتوي على الشتائم ينبع من منطلق أنها أنثى
وتشعر أن انتقاد الناس لها إزاء منشوراتها التي تحتوي على "الشتائم" ينبع من منطلق أنها "أنثى" وهنا، يجب عليها أن تتوقّف، في حين لو كانت "ذكرًا" فإن الموضوع سيكون عاديًا. وتتابع: "أنا لا أتأثر خاصّة أن استمراري في كتابة ما أقتنع به، ثورة على القيود الذكورية. وطالما أنا لا أجرّح أحدًا أو أخدش الحياء العام فأنا حرّة."
في الصدد، تخشى إيمان عبدو على أطفالها من الانخراط في هذا المجتمع لما سيتلقون من أمور "غير أخلاقية" ستؤثر عليهم وعليها، إذ تعاني من ابنها البالغ من العمر 14 عامًا والذي لا ينفك عن قول كلمة "أحّا" في وجهها كلّما اغضبته، وتؤكّد أن هذه الكلمة "دارجة" على وسائل التواصل الاجتماعي ومن هناك اكتسبها، وبالفعل أصبحت "الشتائم" أسلوب تعبير وحياة لدى البعض، حسب قولها.
اقرأ/ي أيضا: كل الحكاية بدأت بتعليق