تساؤل المركزي
على خلاف معظم مجتمعات البشرية التي يكون صاحب لقب "الرئيس/الملك" سيد أمورها والآمر الناهي فيها، يتقاسم أو ربما يتفوق صاحب لقب "السلطان" مع الأول النفوذ والسلطة في المجتمع الصومالي، بكل ما يتعلق بالشأن العام علي طول خط، إلا إذا استثنينا فترات زمنية قصيرة في مناطق معينة كفترة الحكم العسكري في جمهورية الصومال، وحكم إسماعيل عمر جيلي في جمهورية جيبوتي، أما إذا ارتقى الأمر إلى مرتبة "المصيري" و"الجوهري" فغالبًا ما تميل الكفّة لصالح الثاني.
لماذا يتفوق، في الصومال، صاحب ـ"العمامة" على من يتربع على قمة الهرم السياسي من حيث التأثير؟
في هذا الوضع المختل سلطويًا هناك تساؤل مبدئي يطرح نفسه ولن أجازف حقيقة بالزّعم بأنه يدور في خاطر معظم الصوماليين، وأنا الميّال لاحتمال إشغاله لأذهان أصحاب الوعي السياسي والاجتماعي المختلف عن عامة الناس بحكم التعليم أو الاحتكاك بشعوب مغايرة، وربما أيضًا يمر في خاطر كل غير صومالي يتابع حركة حياة العامة في عموم الأراضي الصومالية على امتداد القرن الأفريقي، والتساؤل هو: لماذا يتقدم تأثير من يحمل على كتفه قطعة القماش تلك المسماة بـ"العمامة" على ذاك الذي يتربع على قمة الهرم السياسي في هذه العاصمة أو تلك؟!
اقرأ/ي أيضًا: النّاشط الصومالي.. ظِّل سياسي ولا ظّل مواطن
جذور تاريخية
لم يسجل التاريخ المعروف ملكًا ساد على الشعب الصومالي كله، ولو لفترة زمنية قصيرة، وإن دل ذلك علي شيء فإنه يدل على أن الصوماليين لا يتقبلون بطبعهم أن يتسيد عليهم أحد، لذلك لم تتجاوز سُلطة جل الإمارات الحضرية التي قامت في اراضي صومالية على مر التاريخ حدود تلك مدن، فزيلع وهرر ومقديشو وغيرها دخلت التاريخ كمدن متحضرة بمستوى عال من التمدن الثقافي والتنظيم الاجتماعي، لكن لم يذكر أن تخطت سلطتها أسوار المدن بشكل حقيقي إلا ما ندر.
لأن الوجود لا يحتمل الفراغ لم يكن من المنطقي أن تتستمر حياة مجتمع كامل، بدون سلطة تنظم مسيرته، وتقضي بين أفراده وفئاته حين الخصومة، فقد استعان الصوماليون القدماء في ضبط المجتمع بكل مستوياته بالقانون القبلي العرفي المستند إلى السوابق، وكان يسهر على حماية هذا القانون وحسن تطبيقه كل المجتمع، تحت إشراف طبقة السلاطين "شيوخ القبائل"، الذين لم يملكوا يومًا سلطة بالمعنى المتعارف عليه، لأن منظومة العرف والمحددة لطريقة اختيارهم، لم تكن لتسمح لهم بصلاحيات سلطوية، إلا في نطاق المتعارف عليه ضمن هذه المنظومة القانونية العرفية غير المدونة إلا في قلوب أبناء هذا المجتمع وعقولهم.
عهد الإسلام
عند دخول الإسلام إلى شبه الجزيرة الصومالية "القرن الإفريقي"، وجدت الدعوة الإسلامية مجتمعًا موحدًا يمجد الإله "واق" بوصفه إله العدل والديمومة والرأفة، فاستفاد الصوماليون من الشريعة الإسلامية، وسعوا إلى تكييف قانونهم العرفي مع روح التشريع السماوي، محتفظين بمنظومتهم القانونية العرفية التي بُنيت على تراكم معرفي واجتماعي امتد لقرون، بما يتلائم مع احتياجات المجتمع ومتطلباته، لذلك لم يتم رصد تغير جذري في آلية بناء التشريع والترتيب العرفي الناظم لتطبيقه، بل جعلوا قانون العرفي القبلي المعدل بالشريعة الإسلامية أساس بناء مجتمعهم البشري، وغدت الشريعة الإسلامية أحد أهم مصادر بناء عرفهم القبلي.
اقرأ/ي أيضًا: الصومال بين حزم ورعد وغياب
جعل الصوماليون قانون العرف القبلي، المعدل بالشريعة الإسلامية، أساس بناء مجتمعهم البشري
وباعتبار الشريعة الإسلامية أكبر مؤثر خارجي دخل على المجتمعات الصومالية، محمولًا باعتناق القبائل الصومالية للدين الإسلامي، فإنّه من الجائز الاعتقاد بعدم دخول مؤثرات خارجية أخرى بذات القوة، في فترات تاريخية سابقة وكذلك لاحقة لدخول الإسلام، بحيث لم ينجح أي وافد فكري في إعادة تشكيل المجتمع الصومالي، فبقي شيخ القبيلة يمارس صلاحياته السياسية والعسكرية وإشرافه على القضاء، ضمن مجالس شورى من أعيان فروع قبيلته، فتمتع الفرد الصومالي بحماية قبليته، من كل خطر لا يقوى على مواجهته فرديًا، وتمتع باستقلال قلّ نظيره اجتماعيًا واقتصاديًا عن أي سلطة استبدادية فعمل لنفسه وقاتل بإرادته ولمصلحته حتى ولو كان قتاله غزوًا ونهبًا.
فترة الاستعمار الأوروبي
مع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، جاء المستعمر الأوروبي فتعامل مع شيوخ القبائل كجهات حكم مسؤولة عن مجتمعاتها وعقد معها اتفاقيات سياسية وعسكرية، لكنه بعد أن تمكن من تحقيق نوع من الاستقرار بناء على ما تم عقده من اتفاقيات ملزمة، مع المجتمعات وبسط سيطرته على الأرض واطمأن لوجوده، بدأ بإعادة تشكيل المنظومة الاجتماعية حسب نموذجه الحديث، لكن وجود حواضر صومالية لها قيادات سياسية وثقافية مطلعة على مجريات الأمور في العالم، وتتمتع بعلاقات دولية جيدة، خصوصًا على المستوى الإسلامي، كان العقبة الكأداء أمام استفراد المستعمر بالشعب الصومالي، فبدأت مرحلة هدم ممنهج وبطيء صُمّمَ بطريقة لا تطلق فيه رصاصة واحدة لتلك الحواضر، في خضم تلك العملية تم تتويج بلدة "هرجيسا" كمدينة مركزية للمحمية بريطانيا، وتأسيس جيبوتي كقاعدة إدارية للمستعمرة الفرنسية، ما أزاح مكانة مدن كبيرة وتاريخية مثل وزيلع وبربرة وهرر وبلحار وغيرها، ثم في مرحلة لاحقة وبعد تهميش طويل، اضطرت النخب السياسية وثقافية لهجرة معاقلها باتجاه المراكز الجديدة مما جعل رجالاتها بلا تأثير يذكر لاحقًا.
اقرأ/ي أيضًا: هرجيسا ومقديشو... الوحدة الرومانسية
في الحواضر الجديدة أو مدن ما بعد حرب العالمية الأولى، أصبحت المنظومة المدنية ورجالها من ساسة وعسكر ومدنيين بيروقراطيين ومثقفين على الطراز الغربي، أصبح كل ذلك رقمًا صعبًا في المجتمع الصومالي الذي لم يعرف غير علماء الدين والشعراء كمثقفين، وشيوخ القبائل كقادة وسياسيين، ومن هنا بدأت تتبلور الثنائية السلطوية في المجتمع الصومالي، لكن النخبة القديمة إن صح التعبير كانت تعبر أكثر عن الشعب، في حين أن النخبة المحدثة بقيت أسيرة دورانها في فلك المستعمر، ما جعلها غير منسجمة مع عامة الشعب، لكن برود حركة النخبة القديمة وجمودها، ورفضهم الحازم لكل جديد مكن المحدثين الذين كانوا يتطلعون لقيادة المجمتمع، إلى إثبات أن النخبة القديمة غير قادرة على إدارة حي في مدينة، فما بالك بالدولة الوطنية الحديثة، العاملة بمعايير أوروبية عصرية؟
تخلّى شيخ القبلية عن جانب من سلطته للسياسي الحديث، مقابل أن يمثل السياسي مصالح قبيلته في الحكم
مع تطلع الأمة التي تضع ثقتها في النخبة القديمة إلى التحرر، في مقابل تشجيع المستعمر للنخبة الجديدة، وفشل حركات التمرد التي حملت ضمن ثورتها ليس فقط رفضًا للمستعمر بل للنخبتين المتصارعتين اللتين فُرض على الشعب القبول بهما، برزت حركة الدراويش مجبرة الفريقين على التصالح في مواجهة الفكر الثوري للحركة، ما أدى إلى أن يقبل كل طرف الإقرار للآخر بحصته من المكاسب والسلطة والنفود على المجتمع ضمنيًا، فتخلّى شيخ القبلية عن جانب من سلطته السياسية للسياسي الحديث، مقابل أن يمثل ذلك السياسي مصالح قبيلته في منظومة الحكم.
وبناء على هكذا تفاهمات فقد تم في أول إقليمين مستقلين من الأقاليم الصومالية (المحمية البريطانية/ المستعمرة الإيطالية) تقاسم السلطة على أساس محاصصة قبلية غير معلنة، تزامنت مع وحدة لم يخطط لها ولم تدر جيدًا، فازداد الوضع تعقيدًا لكثرة القبائل الصومالية التي شملها هذا النظام السياسي الجديد، ما شكل سابقة في التاريخ القومي للشعب الصومالي، من حيث اجتماع عدد غير مسبوق من صوماليين في كيان سياسي واحد.
مع أن هذه التجربة الوحدوية لم تعمر طويلًا، خصوصًا في مرحلتها المدنية فقد ظهر التنافس القبلي على شكل خلاف سياسي تمظهر في أول مرة بالانقلاب العسكري الفاشل في عام 1961، أي بعد عام واحد من الوحدة، ما ساهم في تعميق التناقض الحاصل، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل التقاسم غير المتوازن للوظائف العمومية والثروة، ما جعل الشماليين يصابون بخيبة أمل، إلّا أن التجربة الصومالية كان على موعد مع حدث ضخم في تأثيراته، فقد انهيت الحالة السياسية المتحللة باستيلاء الجيش على سلطة بقيادة الجنرال محمد سياد بري، منهيًا ثنائية السياسي الحديث والشيخ القبلي بإقامة نظام دكتاتوري لا يتحمل شراكة في الزعامة، ولا يؤمن بحصص في عملية صنع القرار ناهيك عن الشورى أوالديمقراطية.
اقرأ/ي أيضًا: سقوط منظومة العرف القبلي
بعد أن عرّف النظام نفسه كنظام تقدمي اشتراكي، بمصطلاحات العصر، وناهض هوية المجتمع الإسلامية، ممارسًا سلطاته باستبداد أرعن على شعب لا يعرف في ذاكرتة التاريخية ذاك النوع من الأنظمة، فقد زرع بذور تفكك وتشرذم للمجتمع لأنه ببساطة لم يفهم كبقية المستبدين القاعدة الراسخة التي تقرر أن الضغط والاستمرار في الضغط على المجتمع الفتي يولد الانفجار، فكيف إذا كان المضغوط مجتمعًا مرّ بالكثير وأصبح معدًا مسبقًا للانفجار.
عادت أدوات السيطرة والتحكم في الصومال إلى رجل القبيلة الذي تحصّل كامل شرعيته التي فقد نصفها باستقلال البلاد
كردة فعل طبيعية على احتكار السلطة والثروة، عاد الصوماليون إلى كتلهم الصلبة اجتماعيًا وهي القبيلة، ما أعاد لرجل القبيلة مكانته السياسية كلاعب أساسي في عملية صياغة المشهد وإدارته، فتشكلت حركات سياسية تنتهج العنف سبيلًا لإسقاط النطام وتنتمي كل منها إلى قبيلة مركزية في منطقة معينة في البلد، وعلى هذا الأساس اندلعت الحرب الأهلية الأولى بين النظام والمليشيات القبلية 1978- 1990، لكن بعد سقوط النظام لم تستطع أي من هذه المليشيات السيطرة على الأوضاع، فبدأ فصل جديد من الحرب يمكن اعتباره مرحلة الحرب الأهلية الثانية، بدأت بسقوط النظام واستمرت تنطفئ وتتجدد حتى نهاية القرن العشرين، وذلك لأن كل فصيل من هذه مجموعات أراد أن يفرض سيطرته على آخرين، مخالفًا التقاليد القبلية التي تفرض احترام الأطراف النظيرة وإن شمل الجميع التنافس.
بعد سقوط الدولة
كأن الزمن عاد من جديد إلى الوراء معيدًا معه الصوماليين إلى منظومتهم القديمة، مرسّخًا موقع رجل القبلي كلاعب أساسي في أي عملية سياسية، وتحولت إدارة الشأن العام إلى عملية قبلية بحتة، لأن أدوات السيطرة والتحكم قد عادت في يدي رجل القبيلة الذي تحصّل كامل شرعيته التي فقد نصفها باستقلال البلاد، ثم خسرها كليًا في عهد العسكر، فبدأ اللاعب القديم الجديد يمارس دوره كرجل السلم والحرب، ولولاه مثلًا ما تم مؤتمر "بورما" القبلي، الذي قامت على أساسه "صوماليلاند"، ولولاه ما كانت لترى النور، ولولا فشل رجال القبيلة لما استمر الصراع الدامي في الشطر الجنوبي من جمهورية الصومال.
أما من سميناهم النخبة الجديدة فعادوا إلى الخلف كثيرًا، أو لم يعد لهم وجود وتأثير يذكر في المجتمع، فالموجودون منهم من صار سفيرًا لعشيرته في الفضاء العام، أما المؤثرون منهم سابقًا، فقد غدوا عاجزين عن إثبات وجودهم إلا بسند قوي من بني عشائرهم، وخير دليل على هذا الاصطفاف القبلي الذي حصل داخل حزب "كولميه" الحاكم في صوماليلاند بمؤتمره الأخير، ومشهد الانقسام العمودي في مؤتمر الحوار الوطني لجمهورية الصومال مؤخرًا، نعم وهكذا عاد صاحب العمامة، شيخ القبيلة، السيد المتوّج وصاحب العرش، في بلد النهرين والبحرين، وعند هذا الشعب الشاعري والسياسي!
اقرأ/ي أيضًا: