في صغري، جاءتني هدية مجموعة قصصية "سيرة الأنبياء والصالحين"، من جارنا المتشدد آنذاك أبي مالك، حدث مرة أنه بعد أن فرغ من تناول زبدية "الرز بحليب" لعق محيطها وقاعها بلسانه العريض، منظره شبك عيني، انتبه لي وقال: "هذه سنة من سنن النبي عليه الصلاة والسلام".
اضطر أن يضع ابنته الكبرى عند شيخ لحفظ القرآن، فما كان منه إلا وكتب كتابها على الشيخ
لديه لحية طويلة.. طويلة جدًا، مرقطة أيضًا ببقع من الشيب الأحمر، يرتدي ثيابًا ما غيرها أبدًا، عباية بيضاء تصل حتى تحت الركبة، وبنطالًا أبيض تحتها، عندما تراه تشعر وكأنه بطل درامي هارب من أحد المسلسلات التاريخية، ينقصه تعليق السيف على خصره.
اقرأ/ي أيضًا: 8 عجائب من الحرب اليمنية
متزوج من امرأتين، زوجته الأولى كانت تضع منديلًا أسود وآخر ثان فوقه، كالشبح تبدو وهو أمامها ملاك أبيض!. لا يمشي معها، تتبعه وأطفالها بيدها خلفه بخطوات كبيرة. لديه ابنتان، طفلتان محجبتان، بين عمر 3 و5 سنوات. عندما رفضت زوجته تغطية شعر ابنتها الصغرى، سرقها ليلًا وحلق شعرها بماكينته كاملًا.
اضطر أبو مالك مرة أن يضع ابنته الكبرى عند شيخ لحفظ القرآن، فما كان منه إلا وكتب كتابها على الشيخ، لكي تصبح جلسة حفظ القرآن بالحلال.
في حادثة أخرى، طلبت مني معلمة الديانة بسمة، ذات الحواجب الموصولة، والشوارب التي تلمع تحت الضوء، والتي ترتدي حجابًا أزرق مع جوارب بنية غامقة، دقيقتين للحديث جانبًا بعد انتهاء الدرس. وبدأ سيل النصائح والإغراءات "وجهك سيصبح نورانيًا أكثر.. الحجاب هوية المرأة المسلمة.. إلخ". وفي مرة استغلت فرصة مرور والدي إلى المدرسة لتلقنه درسًا في ضرورة "تحجيبي" غصبًا عني، بحجة أنني صغيرة ولا أعلم مصلحتي، وتلك الذنوب سيحاسب والدي عليها.
كنت أشعر أنها تريد أن تسرق "حسنات" على حسابي، أو أن تضمني لمجموعة إنجازاتها مع فتيات كانت قد أقنعتهن في ارتداء الحجاب، وستتفاخر بي وبهن، مما يزيد مكانتها الدينية في مجتمعها الضيق وأفقها المحدود، إلى أن ملت مني، وقالت مهددة "إن الله سيعلقني من نهدي لأنني بلغت ولم أرتدِ حجابًا".
لم أصدقها، إلا أن قوة المشهد سيطرت عليَّ لسنوات، ولليوم كلما مررت بجانب خواريف أو أبقار مسلوخةً معلقةً، تعود الصورة إلى مخيلتي. إلهي لن يتلذذ بصراخي، لن يجلس فوق عرشه ويضحك وأمامه فتاة تتألم. الله أكبر وأحن، وهم لا يعلمون.
الله عندي أكبر من أن يكرهني بسبب خصلات شعر تركتها لتتنفس الهواء
منذ ذاك الحين وأنا أؤمن أن إلهي مختلف عما يعبدون، قد لا أملك اليقين في شيء، إلا بوجود الله، ومهما حاول بعض الأصدقاء "الملحدين" فتح نقاشات حول وجوده من عدمه، وفكرة أن الدين الحديث مصدره الديانات السومرية، وغيرها من الأحاديث التي يريدون منها إظهار اختلافهم، وإحساس الآخر بسذاجته عن فكرة الأديان والخلق والله، وكأنهم العالمون بالشيء، إلا أن أحاديثهم لا تعنيني.
اقرأ/ي أيضًا: الاستبداد العربي.. مقايضة البقاء بالتراب الوطني
إلهي مختلف. الله عندي أكبر من أن يكرهني بسبب خصلات شعر تركتها لتتنفس الهواء، ولم أخبئها عن عيونهم، أو ينزعج من ترتيبي لحاجبي. إلهي حنون لطيف. يحبني كثيرًا، ويغفر لي آثامي الصغيرة، تلك التي خلقني لأقوم بها.
الله عندي حرٌ.. ليس حبيسًا داخل الكتب المقدسة وأحاديث الشيوخ وأصحاب الفتاوى، إلهي لا يغضب ولا يُستفز أو "يهز عرشه" إن أحدًا أنكر وجوده. نزلنا إلى الأرض لنتعذب، أؤمن أن الله يلهو بنا. لكنني أحبه وينقذني دائمًا، وهو الشيء الوحيد الثابت في حياتي.
أحب مداعبته لنا، وأعرف أنه لن يؤذيني أو يؤذي من أحب، وعلى النقيض سينتقم لي من كل الذين يزعجونني. ويفعل ذلك دومًا. دون أن أطلب منه، إلا أنني ما زلت أنتظر المصيبة القادمة التي ستلتهم ذاك الكائن. لأن الله حريص علي أكثر من نفسي.
اقرأ/ي أيضًا: