قرار مفاجئ صدم الجميع اتخذه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الاثنين 14 آذار/مارس 2016، أعلن فيه سحب "الوحدات الأساسية من القوات الجوية الفضائية الروسية من سوريا" بعد ستة أشهر ونصف، من عملية بدأتها روسيا في 30 أيلول/سبتمبر 2015.
هنا استعراض ظروف قرار الانسحاب المفاجئ، وبعض ما ذكرته وسائل الإعلام الروسية قبل قراءة آثاره على مستقبل الصراع في سوريا.
حرصت وسائل الإعلام الروسية بعد إعلان قرار الانسحاب على إبراز إبلاغ بوتين لنظيره الأمريكي باراك أوباما قراره
اقرأ/ي أيضًا: سوريا..هدنة "الحوادث الفردية"
مبررات القرار حسب تقرير وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، لرئيسه بوتين تنفيذ القوات الروسية لمهامها الأساسية في سوريا:
أكثر من 9000 طلعة قتالية، تصفية أكثر من ألفي مسلح تسللوا إلى سوريا من الأراضي الروسية، بمن فيهم 17 قائدًا ميدانيًا.
تحرير 400 مدينة وقرية سورية واستعادة السيطرة على أكثر من 10 آلاف كيلومتر مربع من أراضي البلاد.
حرصت وسائل الإعلام الروسية بعد إعلان قرار الانسحاب على إبراز إبلاغ بوتين لنظيره الأمريكي باراك أوباما قراره وتشديد الطرفين "على أهمية التنسيق المكثف للجهود الروسية والأمريكية، بما في ذلك في المجال العسكري، للحفاظ على عمل الهدنة ومحاربة المجموعات الإرهابية".
صحيفة "موسكوفسكي كومسموليتس" تطرقت في تحليلها لقرار الانسحاب الروسي لزوايا مهمة ملخصها أن "روسيا تمكنت من الإفلات من الفخ السوري الذي ربما كانت عواقبه على البلاد نظريًا أسوأ من حرب أفغانستان، فبعد أن كان نظام الأسد في الخريف الماضي على وشك السقوط في أي لحظة ولم يكن بإمكانه سوى التفاوض بشأن شروط استسلامه ومصيره، أصبح اليوم قويًا، ويتفاوض كرئيس لديه ما يتفاوض عليه". أما على المستوى الدولي، بحسب الصحيفة ذاتها، فإن "قرار بوتين بسحب القوات الروسية من سوريا يزيل مخاوف اندلاع حرب عالمية ثالثة. كما أنه يخفض احتمال وقوع صدامات حربية روسية-تركية في سوريا".
كل ذلك صحيح لكن قرار الانسحاب واضح فهو يشمل فقط "القوات الجوية الفضائية" والرئيس الروسي فلاديمير بوتين حرص في سياق إعلان الانسحاب على تنبيه أطراف الصراع إلى أن قاعدتي طرطوس البحرية (غرب سوريا) وحميم الجوية (بالقرب من مدينة اللاذقية شمال غرب سوريا) ستبقيان، ويجب أن تكونا محميتين برًا وبحرًا وجوًا هذه القوات كانت موجودة واليوم ستقوم بتنفيذ عملية هامة مراقبة وقف إطلاق النار وإيجاد ظروف ملائمة للعملية السلمية!
اقرأ/ي أيضًا: دولة الأكراد في سوريا.. أقرب من أي وقت مضى
كما أن انسحاب القسم الأكبر من سلاح الجو الروسي لا يعني إزالة منظومة الدفاع الجوي المتطورة إس 400 التي ستعزز الدفاع الجوي في محيط اللاذقية خاصة من سوريا، كما أن روسيا التي جربت أسلحتها العابرة للقارات بنجاح منقطع النظير لدرجة أن أمريكا لم تعلم بها إلا بعد تنفيذ أهدافها وبدقة متناهية، ستبقى على أهبة الاستعداد، إضافة لكل ذلك فإن "نصف السلاح الجوي الروسي سيبقى في قاعدة حميميم" وقبيل أيام فقط كانت البحرية الروسية أعلنت أن حاملة الطائرات "الأميرال كوزنيتسوف" ستصل في صيف 2016 إلى البحر الأبيض المتوسط، لتكون على رأس الوحدات البحرية الروسية المتواجدة هناك.
من كل ما سبق يتأكد لنا أن الهدف الرئيسي للعملية الروسية كان تأمين الدولة "الساحلية" التي تعتبرها روسيا نصيبها الأوحد في الصراع بوجود بشار الأسد أو برحيله، وحمايتها من السقوط، فلا ننسى أن قرار الدخول العسكري الروسي اتُخذ، ونظام الأسد كان على وشك السقوط بين ليلة وضحاها، وبالتالي فإن الحديث عن أن العملية الروسية كانت موجهة ضد الإرهاب الداعشي هو حديث سخيف كما يعلم الجميع، والأدق أنه كان موجهًا ضد أطراف المعارضة السورية وداعميها الدوليين بعدم الاقتراب مستقبلًا من محيط الدويلة "الساحلية" التي يعتبرها بوتين حصته من الصراع.
وبالفعل لقد تمكنت العملية الروسية من تأمين حدود الدويلة "الساحلية" وقضت على كل الجيوب والاختراقات التي أضعفتها وهددت في لحظة مصيرية "عرين" الأسد وجعلته آيلا للسقوط في أية لحظة، كما أنها أمنت العاصمة "السياسية" دمشق، ولن تتوانى روسيا عن الدخول مرة ثانية وثالثة في حال عادت المعارضة لتهديد "دولتها".
اقرأ/ي أيضًا: التحالف العسكري الإسلامي.. هزل أم جد؟
حرص فلاديمير بوتين في سياق إعلان الانسحاب على تنبيه أطراف الصراع إلى أن قاعدتي طرطوس البحرية، وحميم الجوية باقيتان
على المستوى الداخلي في روسيا سيؤدي قرار الانسحاب بكل تأكيد إلى تخفيف الأعباء المالية التي تنهك الخزينة الروسية ولكن العامل الاقتصادي الداخلي لروسيا لا يؤثر على القرارات العسكرية المصيرية. فصحيح أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية والغربية تؤتي أُكلها على روسيا، وأن الاقتصاد الروسي بات يرزح تحت وطأة الحاجة لمصادر دخل إضافية لاسيما مع انخفاض أسعار النفط، إلا أن الميزانيات الخاصة للعمليات العسكرية الروسية وكل ما يتعلق بشؤون وزارة الدفاع لن تتأثر حتى لو أكل الروس الصخر وطبخوا الحجارة، ولا ننسى أن الموازنة العامة للدولة الروسية كانت خفضت ميزانية وزارة الدفاع بنسبة 5% فقط في حين خفضت ميزانية باقي وزارات الدولة بنسبة تصل في بعضها لأكثر من 50%.
يمكن قراءة خلفيات هذا القرار بأنه يظهر حقيقة تطبيق هدنة وقف إطلاق النار التي أعلن عن بدء تنفيذها مؤخرًا، ليس بين الفصائل السورية وإنما بين الولايات المتحدة وروسيا، فالطرفان يتحضران لموسم الانتخابات الرئاسية في روسيا وأمريكا في العام المقبل وبالتالي فإن تجميد الصراع لحدوده الدنيا مناسب للجميع، وبالتالي سيغدو قرار سحب القوات الروسية الجوية بمثابة هدنة مؤقتة وبالأدق هدنة لتوحيد الجهود العسكرية في التفرغ لـ "تحجيم" داعش خشية إفلاته من قواعد اللعبة المرسومة له ما يساعد الطرفين على ترتيب "بيتهم" الداخلي وهي عملية ستأخذ أكثر من عام.
موازنة القوى على الأرض وتقوية الضعفاء هي الاستراتيجية الأمريكية التي تتحكم بها عن بعد في مجريات الحرب السورية، وما الدور الروسي فيها إلا ضمن هذا الإطار، وهو أعلنه بوتين الذي يقول في سره: لقد تمت حماية "حصتي" في سوريا وهي "الدويلة الساحلية التي تتألف "من العلويين والمسيحيين وأغنياء السنة" وأبقيت لحماية "منجزاتي العسكرية" على مدى ستة أشهر ونصف على قاعدتين جوية وبحرية لمنع أي ضرر قد يمسهما وأصبح الأسد قادرًا على التفاوض أي أننا نجحنا في مد عمر الصراع في سوريا لعامين على الأقل بعد أن شارفت أطراف الصراع على الانهيار.
اقرأ/ي أيضًا:
الجربا من القاهرة.. سلام للثورة المضادة