لو شئت لاكتفيت مثل آخرين من قصته، بالظاهر منها، وهو كاف إلى حد كبير، هو بلال مولى أمية بن خلف، الأسود بن حمامة، المنحدر من أَمة قدر لها ألا تلد سوى العبيد، كان أول من أسلم من هذه الفئة، وظل إسلامه سرًا فى أول الأمر إلى أن شاء الله غير ذلك، ولست أقصد هنا الحديث عن إسلام بلال أو تتبع حياته إلى أن اجتباه الله، ولكن أقصد أن ألقي مزيدًا من الضوء حول جانب مهم في حياة بلال هو بلال نفسه، قبل إسلامه وقبل كل شيء.
من الخطأ التسليم بأن إسلام بلال كان إيديولوجيًا عامًا بقدر ما كان تمسكًا منه بإنسانيته التي عرفها وإن لم يتصور الحصول عليها
بشكل خاص تعنيني العلاقة التى جمعت بين بلال وأمية بن خلف، فإلى جانب الطافي منها على السطح من اختلاف كل من بلال وأمية حول حقيقة المقدس، التي كانت سببًا في أن تؤول ربقة بلال إلى أمية من الأساس، كان هناك ما يعتمل في العمق من كلاهما وليس أمية وحده، كان بلال مولى لبني جمح، وعندما كُشِفَ إسلامه وافتضح أمره تخلى عنه سيده إلى أبي جهل وأمية، قال لهما: "شأنكما به فهو لكما أصنعا به ما أحببتما".
اقرأ/ أيضًا: حسن رابح.. الرقص في الريح
كان أمية بن خلف، وبالطبع أبو جهل، ينتمي إلى طبقة السادة من بني قريش، ويصل نسبه إلى أكابر بيوتها مضر وعدنان، وكان من شأن إسلام عبد من عبيد قريش أن يثير الامتعاض والسخرية في نفوس أرستقراطييها وساداتها المخمليين، وإذا كانت السخرية من هذه الفئة واحتقارها لم تعتمد على -ضرورة- وقوع الخطأ منها بالأساس، إلا أن ما أتى به بلال كان دربًا من الخيال بشكل ما، وإذا تساءلنا جدلًا حول إمكانية وقوع الخطأ من بلال قبل إسلامه، لكانت إجابتنا بالقطع، كان بلال يخطئ، وكان يلقى التنكيل والعذاب الشديدين عقابًا على ذلك، ولكن وقوع الخطأ من العبد بلال وهو يؤمن بعبوديته شيء وكفر بلال بهذه التبعية -العبودية- شيء آخر.
إذن، كان طبيعيًا أن يجن جنون أمية الذي قال "إن شمس هذا اليوم لا تغرب إلا ويغرب معها إسلام هذا العبد الآبق"، بل كان الأمر أوضح عندما سيسأله أبو بكر فيما بعد إلى متى ستظل تعذبه هكذا؟ ليرد أمية: "أنت أفسدته فأنقذه مما ترى"، فلفظتا "آبق وأفسدته" تناسبان تمامًا أمية، وما يمثله من طبقية بقدر ما يشكلان رؤية أخرى للنظر إلى بلال بعيدًا عن ثنائية الإله الواحد في مقابل الأصنام. ولبث أمية وبلال على هذه الحال يتجاذبان مفردة الذل فاعلًا ومفعولًا به، يخرجه أمية إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره ثم يقول: "لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بما أنزل على محمد". فيقول وهو في ذلك "أحد أحد".
إذا كان محمد رسول الله إلى بلال.. فإن بلال -نفسه- كان نص هذه الرسالة وفحواها، وكما أشرت سابقا لا يهمني الظاهر من قصة بلال كواحد من أوائل الصحابة وأول من أسلم من العبيد، لأن ما يهمني هنا هو بلال نفسه، العبد والإنسان قبل كل شيء، والذي هو مقصود الرسالة التي لقيت الاعتراض نفسه على يد أرستقراطيي مكة فيما بعد، وفي قولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ما يفضح ذلك، لذلك كان إسلام بلال وقمعه "بروفة" لما جرى فيما بعد مع محمد نفسه، بل يعد بلال وما يمثله واحدًا من أهم الأسباب التي أثارت غضب قريش على محمد ورسالته إذ سوت بين أمية أرستقراطي قريش، وبلال عبدها.
كانت حرية وحشي بتراء لأنها أتت في غير محلها، لذلك ظلت سببًا في حيرته لا في حريته
حرية بلال إذن، كإنسان له ما لأمية وعليه ما عليه، كانت هي المفردة الأساس في نص الرسالة التي أتى بها محمد، ففي الوقت الذي مثل فيه الإسلام بالنسبة لقريش اعتداءً سافرًا على طبقيتهم، واصفينه بالفتنة التي تستهوي العبيد وتمنيهم بسراب الخلاص، كان بلال يراه من زاويته الخاصة ليس سوى بلال نفسه، لا رسالة عامة تخص الجميع.
اقرأ/ أيضًا: خلية "بيلدربيرغ".. التلاعب بمصائر البشر
من هنا يمكنني الادعاء بأن إيمان بلال بمحمد كان نتيجة إيمان محمد نفسه، وما يمثله من رسالة ببلال وما يمثله من إنسان، أما مسألة الآلهة والأصنام فجاءت عرضًا بعد ذلك، إذ لم تكن تؤذيه آلهة قريش المتعددة وأصنامها بقدر ما كان يؤذيه ساداتها، ولم تكن حقيقة الإله محل خلاف إلا بقدر ما كانت إنسانية بلال، لذلك من الخطأ التسليم بان إسلام بلال كان إيديولوجيًا عامًا بقدر ما كان تمسكًا منه بإنسانيته التي عرفها وإن لم يتصور الحصول عليها، بلال اكتشف نفسه فى هذه الرسالة التى اعترفت به، وبحقه الذي ساوت فيها بينه وبين أمية من كل الجهات، بل وما لم يكن يتصوره وهو أفضليته على هذا الأخير بتحقق التقوى.
بمقارنة موقف بلال بموقف عبد آخر هو وحشي بن حرب، الذي كان يجري عليه ما يجري على بلال من ذل وتنكيل، نجد أن موقف وحشي أتى مخالفًا لموقف بلال، انحيازًا لما "طبعت" عليه نفسه من تبعية تامة للسيد أيًا كان، حتى عندما منح حريته على يد هند بنت عتبه لقاء قتله لحمزة عم محمد صلى الله عليه وسلم -ولعل فى لفظة منح فضح للقصة برمتها- كانت حرية بتراء لأنها أتت في غير محلها، لذلك ظلت سببًا في حيرته لا في حريته كما هو الحال عند بلال، لأن حبشي مُنحها دون أن يؤمن بأنها له في الأساس، فظلت معلقة على شرط اعتراف سادته بها وهو ما لم يحدث بالطبع، لذلك انتصر بلال بينما فشل وحشي، ولست أقصد هنا انتصار بلال بانتقال رقبة إنسانيته من إنسان كفر بها هو أمية إلى إنسان آخر آمن بها هو أبو بكر حتى وإن نزل له عنها فيما بعد، أو عندما صاح في بدر لا نجوت إن نجا أمية، ولكن قصدت انتصار بلال على ما فيه من وحشي من شبه في واقعهما.
اقرأ/ أيضًا: