شهد قطاع التصنيع العسكري في إسرائيل تحولات بارزة، ومرتبطة بالتغيرات العامة التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي إجمالا، فتحول واحد من القطاعات الخاسرة، بمنطق العقلانية الاقتصادية، إلى واحد من أهم مسندات الاقتصاد الإسرائيلي، وتحول المنتِج الإسرائيلي إلى واحد من أهم مصدري السلاح في العالم أجمع، ولعل كل فترة من الفترات الثلاث التي مرت بها تجربة السلاح في إسرائيل، مرتبطة بدور بارز، وسنقدم في هذه المقالة كل مرحلة بانفصال، موضحين الأدوار المرتبطة بها.
في البداية، كانت أهداف إسرائيل من صناعة السلاح، متعلقة بالأمن وبإدراكها أن وجودها الغريب في المنطقة يفرض عليها حروبًا مستمرة
المرحلة الأولى: من الحرب إلى السلام
بعد نهاية حرب 1967 بين العرب وإسرائيل، صار هناك نقاش حاد حول الحاجة إلى تصنيع وطني للسلاح في إسرائيل، وكان ذلك بالأساس بسبب وقوف فرنسا وبعض الدول الأخرى الممولة للسلاح الإسرائيلي، إلى جانب العرب، وتوقف تمويلها العسكريّ. وقد ساهم ذلك في تبلور مفهوم الصناعة الوطنية العسكرية في إسرائيل، إضافة إلى مفهوم الاكتفاء الذاتي، نتيجة خيبة الأمل ربما من الاعتماد على التمويل الأجنبي.
وعلى عكس المتوقع فلم تكن كل الأطراف راضية عن هذا المسار، إذا صار هناك صراع بين المؤسسة العسكرية في إسرائيل وبين المؤسسة السياسية، فبقدر ما أصر صناع القرار على ضرورة الاكتفاء، وجدت المؤسسة العسكرية نفسها تحصل على سلاح أقل جودة وكفاية، بتكلفة مضاعفة، خاصة أن التجربة الإسرائيلية بدت جديدة في هذا المجال.
في الفترة المذكورة، لم يتبلور مفهوم الاكتفاء فحسب، ولكن صارت فكرة الصناعة الوطنية للسلاح جزءًا من العقيدة الأمنية والسياسية الإسرائيلية، وكانت الأهداف بالأساس من صناعة السلاح في هذه المرحلة هي أهداف استراتيجية، متعلقة بالأمن والأمن القومي الإسرائيلي، وبإدراك إسرائيل أن وجودها الغريب في المنطقة يفرض عليها حروبًا مستمرة.
لكن الأهم في هذه المرحلة أنها أسست الخطوات الأولى لعملية تصدير السلاح إلى دولة مختلفة من العالم، لكن التصدير أيضًا لم يرتبط بأهداف اقتصادية مجردة، بقدر ما ارتبط بأهداف استراتيجية أيضا. فقد شكلت إسرائيل أوائل علاقاتها الدبلوماسية مستغلة مناطق النزاع والصراعات، وحاجة بعض المناطق إلى سلاح، وكانت العلاقات السرية مع دول إفريقية مختلفة مثالًا واضحًا، إضافة إلى علاقتها الواضحة مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا الذي كانت العلاقة معه محظورة عالميًا.
وحرصت إسرائيل من خلال سلاحها على صناعة مشتركات بينها وبين دول مختلفة، مثل التخويف من خطر الإسلام والإرهاب الإسلامي أو خطر السود. حتى وُصفت علاقة النظام العنصري مع إسرائيل، في الكتاب السنوي الذي أصدرته الحكومة العنصرية عام 1976، بما يشير واضحًا إلى ما نقوله: "لدى إسرائيل وجنوب أفريقيا شيء واحد قبل كل شيء مشترك: كلاهما موجودان في عالم يطغى عليه العداء ويسكنه أناس من السود"
مع بداية السبعينيات بدأ اتجاه تصدير الأسلحة يأخذ أهدافًا اقتصادية، ولكن علاقة التصدير ظلت في معظمها علاقات سرية، والدور الاقتصادي بقي دورًا محدودًا، واستمر تصدير السلاح في إسرائيل على هذه الحال، إلى منتصف الثمانينيات.
اقرأ/ي أيضًا: صار وجوده رسميًا..بغداد تعين سليماني مستشارًا لها
المرحلة الثانية: سقوط الاتحاد السوفيتي، والتسوية السياسية
تزامن التصاعد في تطور القدرات الإنتاجية لقطاع الأسلحة الإسرائيلية، مع تغيرات إقليمية ودولية، أثرت تأثيرًا بارزًا على مساره، بحيث صار القطاع الذي قام على خسارة اقتصادية ومنفعة استراتيجية من البدء، قطاعًا يحمل منفعة اقتصادية أساسية للاقتصاد الإسرائيلي، خاصة مع دخول القطاع الخاص بقوة في هذا المجال، وصولا إلى وجود آلاف الشركات الإسرائيلية المختصة بصناعات الأمن والرقابة والأسلحة.
في بداية هذه المرحلة، أي من نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، وصلت نسبة تصدير الأسلحة من إسرائيل من إجمالي الصادرات الإسرائيلية كلها، إلى ما يقترب من الربع 25%. وكانت نهاية الاتحاد السوفيتي التدريجية، قد جعلت الدول المعتمدة على السلاح السوفيتي بالأساس مثل الهند مثلًا، تبحث عن بديل، خاصة مع تردد الدول الأوروبية وامتناعها عن تصدير السلاح إلى دول آسيا وأفريقيا لأسباب مختلفة.
في هذا الوقت كانت إسرائيل قد طرحت نفسها بديلًا قويًا، نجحت في أحيان كثيرة بإقامة علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع دول مختلفة. إضافة إلى امتلاك إسرائيل رأس مال بشري من الخبراء العسكريين الوافدين من الاتحاد السوفيتي، ساهم في تعزيز وجود صفقات لتصدير خبرات الصيانة والتطوير والتدريب.
كان السلاح الإسرائيلي ورقة ضغط على دول مختلفة، مؤثرًا على مواقفها السياسية تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي
وقد تعززت العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل، نتيجة قيام عملية تسوية سياسية مع الأردن ومنظمة التحرير أيضًا، مبددة مخاوف الدول المختلفة من مقاطعة الدول العربية لها، خاصة مع دخول العرب أنفسهم في علاقات اقتصادية مع الاستعمار. وكان الوصف الملائم للاقتصاد الإسرائيلي في الفترة المذكورة، أنه اقتصاد عسكري بامتياز.
وقد اعتمد تصدير السلاح آنذاك على دول آسيا بالتحديد فكانت معظم الوقت في المرتبة الأولى من حيث استهلاك بضائع السلاح الإسرائيلي، خاصة دول الهند والصين، بينما لم تعول إسرائيل على الدول الأوروبية التي كانت نسب استهلاك الأسلحة من ميزانياتها تتراجع أصلًا، إضافة إلى أن التصدير الإسرائيلي اعتمد بالأساس على المناطق التي لا يصلها المصدرون الآخرون، وهي مناطق النزاعات والصراعات الأهلية والطائفية، وكأن مخالفة أنظمة وقوانين المجتمع الدولي، كانت امتيازًا للاحتكار الإسرائيلي.
اقرأ/ي أيضًا: بعد 13 عامًا..التجنيد الإجباري يعود للعراق
المرحلة الثالثة: تراجع الدول الاقتصاديّ
بعد الفترة المسبوقة من الانشغال بتصنيع وتصدير الأسلحة، أخذ الدور الاقتصادي لعملية التصدير بالتراجع. فقد تراجعت نسبة الصادرات العسكرية من إجمالي الصادرات، من 25% كما قلنا، حتى وصلت في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، إلى ما معدله 2-3% واستمر هذا المعدل في السنوات التالية إلى الآن. وقد كان ذلك لأسباب مختلفة ومتعددة، مثل عدم القدرة على الاستمرار باقتصاد وقطاع صناعة من هذا النوع، لا يستند إلى تنوع يلبي الحاجة إلى الصناعات المدنية.
على العموم فإن تراجع الدور الاقتصادي للتصدير العسكري لم يلغ الأهمية أو الأدوار الأخرى التي كانت لهذا النوع من التصدير، ولكنه ربما ساهم في تعزيزها، فقد تعزز الدور الدبلوماسي في هذه الفترة، وكان السلاح الإسرائيلي ورقة ضغط على دول مختلفة، مؤثرًا على مواقفها السياسية تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي. فنجد مثلا أن دولًا مثل الهند كان موقفها تاريخيًا وموقف قادتها التاريخيين، واضحًا من القضية الفلسطينية، ورغم اعترافها بإسرائيل، وبعض التبادلات العسكرية السرية، فإنها لم تقم بعلاقات دبلوماسية معها إلا في وقت متأخر جدًا، وتأثرًا بحاجاتها للسلاح الإسرائيلي.
إننا نجد أن هذا التحول في مواقف الدول المستهلكة للسلاح الإسرائيلي لم يكن فقط من خلال إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ولكنها غيرت مواقفها الدبلوماسية تجاه الصراع العربي الإسرائيليّ، إما بشكل واضح برفض مشاريع فلسطينية مختلفة أو إدانات للسياسات الإسرائيلية، أو بشكل جزئي من خلال الامتناع من اتخاذ موقف أو الوقوف على الحياد، وفي كلا الحالتين نجد التحول حادًا، وكان ذلك واضحًا بالنسبة لمشاريع السلطة الفلسطينية في المحافل الدولية.
اقرأ/ي أيضًا: