30-أبريل-2024
مضى أكثر من عام على بداية الحرب السودانية

(epa) يبدو الجيش السوداني في وضع يسمح له بتغيير الوضع الميداني على الأرض

بعد نحو عام على اندلاع المواجهات بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا قوات الدعم السريع، تقدمت الحكومة السودانية بطلب لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لبحث ما أسمته "عدوان الإمارات على الشعب السوداني، وتزويد الميليشيا الإرهابية بالسلاح والمعدات"، في إشارة إلى قوات الدعم السريع التي يتزعمها محمد حمدان دقلو.

وقد تزامنت الشكوى السودانية ضد الإمارات مع تحقيق الجيش السوداني تقدمًا على الأرض في الخرطوم؛ إذ نجحت وحدات من سلاح المهندسين التابع للجيش السوداني في فك الحصار المضروب عليها جنوب أم درمان والانضمام إلى القوات الموجودة في وادي سيدنا شمالًا؛ ما مكن الجيش من توسيع نطاق سيطرته داخل أحياء أم درمان القديمة، وصولًا إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، في تحول ملحوظ لديناميات المواجهة مع قوات الدعم السريع، بعد سلسة تراجعات في أنحاء مختلفة من البلاد.

استراتيجية الدعم السريع

منذ إطاحة نظام عمر البشير في نيسان/ أبريل 2019 تعاظم نفوذ قائد ميليشيا قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (المعروف بـحميدتي)، ليصبح الرجل الثاني في الدولة بتوليه منصب نائب رئيس مجلس السيادة، بعد التوصل إلى اتفاق المرحلة الانتقالية في تموز/ يوليو 2019. ومنذ ذلك الوقت، عزّز حميدتي قدراته العسكرية من خلال إقامة معسكرات تبدو، من خرائط الأقمار الصناعية، أنها موزعة بشكل مدروس حول الخرطوم لتطويق العاصمة.

يبدو الجيش السوداني في وضع يسمح له بتغيير الوضع الميداني على الأرض والاستثمار في التقدم الأخير الذي حققه في أم درمان

أما في العاصمة نفسها، فقد كانت قوات الدعم السريع تتمركز داخل أو بالقرب من العديد من المرافق والمنشآت الحيوية مثل القصر الجمهوري، ومبنى الإذاعة والتلفزيون، ومطار الخرطوم، ومعظم الجسور الرئيسة في العاصمة. وقد ساهم هذا التموضع الاستراتيجي عند اندلاع المواجهات مع الجيش في نيسان/ أبريل 2023 في تحقيق تقدم ميداني لصالح قوات الدعم السريع.

تضمنت العمليات التي قامت بها قوات الدعم السريع داخل الخرطوم منذ بداية الحرب ثلاث مراحل؛ ففي المرحلة الأولى نفذت عملية عسكرية خاطفة مكنتها من السيطرة على أبرز مؤسسات الدولة السيادية، مثل القصر الرئاسي، ومباني الإذاعة والتلفزيون، ومطار الخرطوم الدولي، وعدد من الجسور الرئيسة في العاصمة، لكن فشلها في السيطرة التامة على مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة ونجاح الحرس الرئاسي في إجلاء قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان فوَّتا عليها فرصة حسم الصراع. وفي المرحلة الثانية حاولت قوات الدعم السريع تعطيل تحركات الجيش السوداني، عبر نشر قواتها ضمن الأحياء السكنية في محليات ولاية الخرطوم الخمس وإقامة مواقع للقناصة داخل المباني وفوقها، وإعداد كمائن في الطرق الرئيسة والفرعية. وقد أدى ذلك إلى إيقاف تدفق الإمدادات إلى مواقع رئيسة للجيش بما فيها مباني القيادة العامة وسلاح الإشارة.

أما في المرحلة الثالثة، فقد شنت قوات الدعم السريع عمليات هجومية استهدفت عزل العاصمة عن الولايات المجاورة، ثم انتقلت إلى عزل وحدات الجيش عن بعضها داخل العاصمة. وبادرت منذ وقت مبكر إلى عزل ولاية شمال كردفان، وولاية دارفور التي تشكل في معظمها حاضنة اجتماعية لها. وبعد سبعة أشهر من القتال نجحت قوات الدعم السريع في انتزاع أربع حاميات عسكرية من أصل خمس في إقليم دارفور، والاستيلاء على كامل ولاية الجزيرة عقب انسحاب مفاجئ لقوات الجيش.

عناصر قوة الدعم السريع

استغلت قوات الدعم السريع على المستوى العملياتي خصائص حرب المدن لتقليل الميزات التي يتمتع بها الجيش السوداني، وجرّه إلى بيئة قتال لم يألفها. أما على الصعيد الاستراتيجي، فقد أدت عوامل عدة، أبرزها الدعم الخارجي، دورًا مهمًا في دعم قدرة قوات الدعم السريع على الاستمرار في الحرب. ووفقًا لتقارير متعددة، أبرزها تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة، أدت دولة الإمارات وشركة فاغنر، التي تُعد ذراع روسيا في أفريقيا، دورًا كبيرًا في توفير الدعم العسكري لقوات الدعم السريع، التي استقبلت هذه الإمدادات عبر حدود السودان مع تشاد، وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا.

ويرتبط هذا الدعم الخارجي بأنشطة الدعم السريع الاقتصادية، وتحديدًا تجارة الذهب مع هذه الجهات. وتعد الإمارات المزوّد الرئيس لقوات الدعم السريع بالأسلحة؛ حيث يتم تفريغ عدة شحنات أسبوعيًا في مطار شرقي تشاد، تتضمن أنواعًا مختلفة من الأسلحة، بما فيها منظومات الدفاع الجوي المحمولة على الكتف، والطيران المسير وأصناف متنوعة من الذخائر والمعدات، يتم بعد ذلك نقلها في شاحنات عبر الحدود. وفي آب/ أغسطس 2023، تم العثور على أسلحة في طائرة شحن إماراتية كان يفترض أن تنقل مساعدات إنسانية للاجئين سودانيين في تشاد.

وفي حين شكّلت دول الساحل الأفريقي نقطة عبور للأسلحة والمعدات، اتخذت أنشطة قائد الدعم السريع في منطقة القرن الأفريقي وعدة دول أفريقية أخرى منحًى دبلوماسيًا، فبعد أشهر من اندلاع الحرب بدأ قائد قوات الدعم السريع بتحركات دبلوماسية شملت أثيوبيا وجيبوتي وأوغندا وكينيا وجنوب أفريقيا ورواندا، عقد خلالها مباحثات مع قادة تلك الدول، وهو ما أدى إلى توتر العلاقات بين السودان وهذه الدول باعتبار أن ذلك يمنح حميدتي اعترافًا لا يستحقه. وقد عبّر البرهان عن استيائه بالقول: "إن استقبال أي جهة (سودانية) [...] لا تعترف بالحكومة القائمة يعتبر عداء للدولة" السودانية.

تعثر الوساطات الإقليمية والدولية

انعكست تحركات حميدتي الخارجية سلبيًا على مبادرة الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، فقد رفضت الخرطوم رئاسة كينيا اللجنة الرباعية المكلفة بحل الأزمة في السودان والمؤلفة من كينيا، وجيبوتي، وجنوب السودان، وأثيوبيا. ووصف بيان صادر عن الخارجية السودانية كينيا بأنها طرف غير محايد، كما رفض السودان دعوة "إيغاد" لحميدتي لحضور قمة رؤساء الدول التي عُقدت بعنتيبي ورفض السودان المشاركة فيها، وفي 20 كانون الثاني/ يناير 2024 جمّد السودان عضويته بالإيغاد.

وقبل ذلك، في 3 كانون الأول/ ديسمبر 2023، أعلنت الرياض وواشنطن تعليق مفاوضات جدة إلى أجل غير مسمى، بسبب الفشل في تنفيذ إجراءات بناء الثقة، والتي تضمنت إعادة احتجاز رموز النظام السابق الهاربين من السجن، وإنهاء الوجود العسكري في المدن بحسب ما التزم به الطرفان.

ويعود تعثر مفاوضات جدة إلى عاملين رئيسين: يتمثل الأول في رفض قوات الدعم السريع إخلاء المنشآت المدنية ووقف الأنشطة العسكرية في الشوارع والمناطق الحضرية، حيث يُعتبر بقاؤها في هذه المناطق جزءًا من استراتيجيتها القتالية المبنية على حرب المدن. أما العامل الثاني فيرتبط بانخراط قوى عسكرية ذات توجهات إسلامية - من ضمن مجموعات أخرى – في القتال إلى جانب الجيش؛ ما أثر في استجابة الجيش لمطلب إعادة احتجاز شخصيات محسوبة على النظام السابق.

وفي شباط/ فبراير 2024 استضافت العاصمة البحرينية، المنامة، محادثات جمعت بين الفريق شمس الدين الكباشي نائب القائد العام للقوات المسلحة وعبد الرحيم دقلو شقيق حميدتي، بحضور مسؤولين من مصر والإمارات الداعمين الرئيسين للجيش والدعم السريع، إلى جانب ممثلين من الولايات المتحدة الأميركية والسعودية، لكن الاجتماع لم يتمخض عن نتائج.

ديناميات المشهد الداخلي

في 15 آب/ أغسطس 2023، أطلق نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار، مبادرة لحل الأزمة السودانية، تبدأ بوقف إطلاق النار وإخراج الدعم السريع من الأعيان المدنية، ثم تشكيل حكومة تسيير أعمال، والعمل مع القوى السياسية لتهيئة الظروف لعقد مؤتمر تأسيسي. وفي حين لم يُبدِ الجيش موقفًا محددًا من المبادرة، رفضت قوات الدعم السريع المبادرة لنصها على الخروج من الأعيان المدنية، أما قوى الحرية والتغيير فقد تحفظت على مقترح تشكيل حكومة تسيير الأعمال، ورفضت الحركة الإسلامية المبادرة؛ لأنها تضمنت مادة تنص على إبعادها وإعادة قادتها إلى السجون.

وفي إطار سعيها لتعزيز موقفها سياسيًا، وقع قائد قوات الدعم السريع في 3 كانون الثاني/ يناير 2024، اتفاقًا عُرفَ بـ "إعلان أديس أبابا" مع تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدُم" برئاسة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، تضمن وقف الأعمال العدائية وإيصال المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين.  إلا أن قوات الدعم السريع لم تلتزم بما جاء في الإعلان فيما يتعلق بوقف الانتهاكات وإيصال المساعدات الإنسانية. كما أن القوى السياسية التي وقعت مع حميدتي تضررت من هذا التوقيع؛ بسبب نفور الشعب السوداني من تواصل ارتكاب قوات الدعم السريع جرائم ضد السكان الآمنين في الجزيرة والخرطوم، وكذلك في إقليم دارفور.

وفي آذار/ مارس 2024، أعلنت تنسيقية القوى الوطنية بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار، عن عزمها توقيع ميثاق سياسي مع الجيش، ضمن مساعي حل الأزمة السودانية، وتكوين حكومة طوارئ. ورغم أنه لم يصدر موقف رسمي عن الجيش بشأن الميثاق، فإن ظهور قيادات التنسيقية في أم درمان التي تم طرد قوات الدعم السريع منها، واجتماعها مع كبار ضباط العمليات في قاعدة وادي سيدنا العسكرية، إضافة إلى لقاءاتها بالبرهان ورئيس جهاز المخابرات العامة، أوحى بأن التنسيقية تتمتع بدعم الجيش. وقد عبر المتحدث باسم التنسيقية، مصطفى تمبور، عن موقف داعم للجيش ورافض لأي اتفاق سياسي مع ميليشيا الدعم السريع، في إشارة لـ "تقدُم"، التي اتهمها بأنها تنفذ مخططًا إماراتيًا يسعى لنهب ثروات السودان.

ومع فشل جهود الوساطة، يبدو أن الطرفين باتا يراهنان على اختراق ميداني يكسر جمود المساعي السياسية لحل الأزمة، حيث تعتمد قوات الدعم السريع بشكل أساسي على تكتيكات القتال الحضري لتحقيق مكاسب، مع ممارسة انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، بما في ذلك القتل على الهوية والاغتصاب والتجنيد القسري، في حين يراهن الجيش على الاستفادة من كونه المؤسسة الشرعية التي تحظى بدعم شعبي لمواجهة ميليشيا ترتكب انتهاكات جسيمة، للحصول على دعم خارجي جديد يسمح له بكسر حالة الجمود في الميدان، وهو ما يبدو أنه بدأ في عملية فك الحصار عن سلاح المهندسين.

استراتيجية جديدة للجيش

اقتصرت عمليات الجيش على توجيه الضربات الجوية والقصف المدفعي والدفاع عن مقراته بشكل محدود، لكن في الآونة الأخيرة، قام الجيش بأول عملية هجومية منسقة تمكن خلالها من فك الحصار عن قوات سلاح المهندسين جنوب أم درمان، ونجح في إحداث اختراق في صفوف قوات الدعم السريع بعد أسابيع من حرب الشوارع؛ ما سمح لقوات وادي سيدنا (شمال أم درمان) من الوصول إلى قوات سلاح المهندسين وإدخال تعزيزات عسكرية وإمدادات غذائية.

ونتيجة لذلك تم تطهير معظم أحياء أم درمان القديمة والأحياء المحيطة بالإذاعة والتلفزيون، ووجدت قوات الدعم السريع نفسها تحت الحصار، وحاولت الانسحاب من مبنى الإذاعة والتلفزيون غربًا، إلا أن طيران الجيش المُسيّر تعامل مع أرتال القوات المنسحبة. وكانت هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها قوات الجيش تكتيكات العمليات المشتركة بتنسيق محكم، حيث صاحب تدخل الطيران المسير هجومٌ مُنظمٌ قام به مشاة سلاح المهندسين الذين تمكنوا من السيطرة على مباني الإذاعة والتلفزيون.

حوّلت قوات الدعم السريع مباني الإذاعة والتلفزيون إلى مقر قيادي لقوات الدعم السريع في وسط أم درمان، يتم عبره التحكُم في أربعة طرق ذات أهمية للجيش السوداني، وهي: شارع النيل وشارع الموردة وشارع الأربعين وشارع البوابة. فاسترداد الإذاعة والتلفزيون وما حولها لا يعني فرض السيطرة على رقعة جغرافية فحسب، بل أيضًا استعادة السيطرة على هذه الطرق الرئيسة؛ فأعادت الربط بين منطقتَي جنوب أم درمان العسكرية (سلاح المهندسين) ووادي سيدنا العسكرية (شمال أم درمان)، وأعادت تفعيل خطوط الإمداد اللوجستي بين المنطقتين.

وتجدر الإشارة إلى أن قوات الدعم السريع ما زالت تسيطر على أجزاء واسعة من ضاحية أمبدة غربي أم درمان، والصالحة جنوبي أم درمان وصولًا إلى خزان جبل أولياء جنوب الخرطوم.

رافق تحول الجيش من الدفاع السلبي إلى الهجوم تخليه عن حذره في التعامل مع الدعم الإماراتي لقوات الدعم السريع، حيث أطلق الجيش جملة من التصريحات الحادة تجاه تدخل الإمارات في الشأن السوداني عبر عنها بقوة عضو مجلس السيادة ومساعد القائد العام الفريق ياسر العطا.

يواكب التحركات العسكرية للجيش تحركٌ سياسيٌ على الصعيد الخارجي يهدف إلى الاستفادة من ضيق ذرع المجتمع الدولي بمحاولات أطراف إقليمية لتحقيق مصالحها الاقتصادية

وفي كانون الأول/ ديسمبر 2023، طلب السودان من 15 دبلوماسيًا إماراتيًا مغادرة البلاد. وتزامن مع ذلك خروج تظاهرات في مدينة بورتسودان تطالب بطرد السفير الإماراتي، قبل أن تقرر الحكومة السودانية تقديم شكوى ضد الإمارات في مجلس الأمن بسبب دعمها "لقوات الدعم السريع الإجرامية التي شنت الحرب على الدولة ما يجعل الإمارات شريكة في كل جرائمها"، بحسب مندوب السودان في الأمم المتحدة.

وقد استفاد الجيش من إعلان عدد من الحركات المسلحة الموقعة لاتفاق جوبا للسلام انخراطها في القتال إلى جانبه بعد أن شجعها أداء الجيش في أم درمان.

خاتمة

للمرة الأولى منذ اندلاع المواجهات بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا قوات الدعم السريع قبل نحو عام، يبدو الجيش السوداني في وضع يسمح له بتغيير الوضع الميداني على الأرض والاستثمار في التقدم الأخير الذي حققه في أم درمان للقيام بعمليات هجومية مماثلة لفك الحصار عن بقية مواقعه الرئيسة في الخرطوم.

وحتى يتمكن من المحافظة على تقدمه ومنع قوات الدعم السريع من القيام بهجوم مضاد، سيحاول الجيش تحييد العمق الدفاعي للدعم السريع بمناطق غرب أم درمان التي تشهد وجود قوات الدعم السريع، فضلًا عن محاولة السيطرة على مدخل المدينة من الجهة الغربية تجاه إقليم دارفور الذي يعتبر الشريان الرئيس لإمداد قوات الدعم السريع بالمقاتلين والسلاح.

يواكب هذه التحركات العسكرية للجيش تحركٌ سياسيٌ على الصعيد الخارجي يهدف إلى الاستفادة من ضيق ذرع المجتمع الدولي بمحاولات أطراف إقليمية (خاصة الإمارات وروسيا) لتحقيق مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية عبر دعم ميليشيا الدعم السريع؛ ما يسهم في تصلب مواقفها من عملية السلام، مع استمرارها في ارتكاب الانتهاكات الجسيمة.