صرت أفتح عيني كل يوم على رسائل من قبيل "أرسلها لـ12 شخص وستسمع خبرًا سارًا"، ويؤكد لك المرسل أن عقيدًا بحريًا فعلها فأصبح عميدًا في اليوم التالي، وإن بائع خضار متجولًا صار صاحب سوبر ماركت، وسياسيًا متعثّرًا أو كَهلًا خَرفًا أو كَشّاشَ حمامٍ أصبح عضوًا في الائتلاف السوري، وشاعرًا رديئًا تحول إلى روائي، ومهربَ دخان صارَ قائد فصيل وهكذا، إلى أن تصل الرسالة إلى التهديد والوعيد بعاقبة الأمور والثبور: "وإن لم تفعلها، ستندم ندمًا كبيرًا، وستبكي ويصيبك حزن كبير"، كأنْ تُحرمَ أسرتكَ من السلةِ الغذائيةِ أو تهجم على بيتكَ مخابراتُ الدولةِ أو بعضُ أزلامها أو تدخلَ مفقودًا وتخرجَ مولودًا أو تَسلمُ من حاجزٍ فيتلقفك الآخرُ، فيوسطُ أهلكَ كشاش الحمام وصاحب المرقصِ وملمعِ الأحذية ليفكوا رقبتكَ بمالٍ أو وعدٍ بالسكوت، بحيث" تضعُ رأسكَ بينَ الرؤوس وتقولُ يا قطّاع الروس"!
في مدينةٍ كالقامشلي هجرها ناسها وبقيَّ النظام ومن يسندهُ فيها، زادت الإتاوات على القلةِ الباقية
"ستندمُ ندمًا كبيرًا" وتُذيلُ الرسالةُ بسعر الدولار هذا اليوم وبقائمة أسعار الخضروات والأساسيات التموينية مثلًا، في مدينةٍ كالقامشلي هجرها ناسها وبقيَّ النظام ومن يسندهُ فيها، فزادت الإتاوات على القلةِ الباقية، وزادت نوافذ الخوف أكثر من زمن المساعد أبو علي واللواء أبو جاسم، فاليوم يكتب لي صاحب الرسالة بعدَ المغريات في بدئها وختامها بالترهيب: كيلو البندورة 1350، البطاطا 250، السكر 500، الرز 700، قنينة زيت 700 مم 700، الفول الأخضر 250، البصل 300، كيلو الدجاج 1400، كيلو اللحمة 3000، سفط البيض 1300، والحذاء بـ6000، وصديقي في رسالتهِ يبدو ميّالًا للتفاؤل فيقول "يا أخي الوضع الاقتصادي عم يتدهور شوي شوي وحصار مو طبيعي".
اقرأ/ي أيضًا: أهلًا وسهلًا بنهاية العالم
في مبحثِ العمقِ عن خلفيةِ الرسائل هذهِ، سيجد القارئ عن معاينة لما كنا نعيشه، خاصة أبناء الريف، وإذا عرفنا أنَّ بعض مدننا هي حواضر ريف وأنَّ ناسها هم أبناء لتلكَ المساحات الواسعة والمطمئنة لعلاقتها بالأرض واعتمادها عليها، سيعرفُ من انتقال الخوفِ والشعور بالجوع إليها حجم الكارثةِ والفاقة، كانَ أهلنا في السنواتِ الأخيرة ومع القحطِ والقرارات المعطّلة للحياة في الجزيرة نزحوا إلى المحافظات الأخرى لتأمين لقمة العيش، وأطلق عليهم بعض العميان "غجر الجزيرة" للتقليل من شأنهم وطعنهم في انتسابهم إلى قبائل عريقة يفاخرون بها، كانوا يتمسكونَ بالمثل لبثِ روح الطمأنينة والتخلص من العجز الذي تحدثه سنوات الجوع "مِثل الحصيني إنْ فاضت لَكْ وإن نشفَت لَك" و(الكاف) مخففة هنا والـ "لك" هي ولوغِ الماء.
إذا كانَ الناسُ المشغولون بالحرب على بساطتهم وبعدهم عن نارها كما يبدو لهم أو كما يُطمئِنوا هم أنفسهم، لايستطيعونَ خلق نظريات توازي هذا الوعي الحياتي بالحرب وصروفها، وهم بذلك يُشيّدونَ العلاقة اليومية معها، ضمن إمكانياتهم وحاجاتهم الضرورية وبما يُحسسهم أنهم في مأمن عنها، وما الرسائل البادئة بالترغيب والمنتهية بالترهيب إلاّ طُوبىَ ومحاولات يائسة مطمئنة للعاجز عن القيام بفعل تغيير أو أن يكونَ جزءًا من حالٍ عام ومساهمًا فعّالًا له شخصيتهُ في سوقِ المزادات والمزاودات، لذلك ما من شكٍ على ما أعتقد شخصيًا بأنَّ أمرًا مدروسًا ومشغولًا من آخرين، شغلٌ يتمُ لصالحِ الأوهام وتسويقها على أنها حقائق وأحلام قابلة للتحقق.
اقرأ/ي أيضًا: جمعة الأرض.. لماذا احتشد المصريون؟
استدرار عاطفة العاجزين وإيهامهم بتحققِ أشياء أقرب إلى المعجزة هو في الوجه الثاني إمعان في تعجيز العاجز، أمرٌ في كنهه لا يختلفُ من ترويجِ المخدرات والتسلية وتطييب أفعال كثيرة كانت منبوذة في وقت ما، وهي والحال اليوم تأخذ طريقها إلى النفوس بذريعةِ الراهن وانزياحِ الحرب وهولها على مناحي الحياة.
صار السوري يصدّق كلَّ شيءٍ يؤهله لأن يستمر بالأقل الممكن من الكذبةِ إلىَ الشعوذة
التقريب بينَ المستحيل والممكن، لم يكن لينطلي على البسطاء فقط، ففي وقت سادت عندَ بعض "سدنة" المعارضة ومتحدثيها موضة إعطاء وعود قاطعة بسقوطِ النظام السوري بعد أسبوع أو شهر، لم تكن وعودًا الحقيقة وإنما كانت تنجيمًا كما لو أنَّ المحللَ يمتلكُ طاقية الجان أو استشارَ الآلوسي وماغي فرح ونوستراداموس، وإذا كانت الرسائل هذه "شعوذة" تنشطُ في أرض وعي هشةٍ فإنها والحال الثانية تأتي من أشخاص يقدمون أنفسهم بوصفهم "نخبة" وفي الحالتين الضحية: الإنسان الأكثر تضررًا وأقل حيلة وأكثر تصديقًا لما يُطَمئِنهُ وإن كان وهمًا.
صار السوري يصدّق كلَّ شيءٍ، يجعلهُ في دوامة الحياة، ويؤهله لأن يستمر بالأقل الممكن من الكذبةِ إلىَ الشعوذة، فقط لم يعد يصدّق أنْ الحرب ستنتهي وبشار لن يكونَ رئيسًا للمرحلة القادمة. رباااه، يا فينيقَ السوريين انهض من رمادك.
اقرأ/ي أيضًا: