حضرت قبل مدة بسيطة، في معرض الشارقة الدولي للكتاب، محاضرة للكاتب المصري يوسف زيدان، قارب فيها ملامح الربيع العربي، وحدث أن أسهب في الحديث عن التجارب المصرية والسورية والليبية واليمنية، ولم يذكر التجربة التونسية، ولو من باب "الفال" كما يقول المغاربيون.
استطاع التونسيون أن ينتهوا بالمسار الثوري إلى مؤسسات شرعية منتخبة، تحظى بالاعتراف الشعبي والدولي بها
سألته عن خلفية هذا التغييب، لتجربة كانت فاتحة التجربة، فاكتفى بالقول إنه لا يعتبر ما حدث في تونس ثورة، بل أحداثًا عابرة انتهت بهروب الرئيس. قلت في نفسي: هل كان على "الزين" أن يجثم على صدور التونسيين، ويمزقهم كل ممزق، وأن يقاتل الجنوبيون الساحليين والإسلاميون العلمانيين والعربُ الأمازيغَ، حتى تحظى التجربة التونسية بالذكر العربي الحميد؟
كانت تونس حين حدث هذا، قد انتخبت رئيسًا شرعيًا خلفًا للرئيس الانتقالي، وبرلمانًا دائمًا خلفًا للمجلس التأسيسي، مُثّلت فيه جميع ألوان الطيف السياسي، وحكومة عادية خلفًا للحكومة المؤقتة، اشترك فيها إسلاميون وعلمانيون، وكتبت دستورًا مدنيًا رسّم الوجهة الديمقراطية لنظام الحكم، في مقابل فشل للمبادرة الخليجية في اليمن، وانشقاق الحكومة في ليبيا، ومضاعفة اللهيب في سوريا، وتغيير المسار الانتخابي في مصر.
هنا على العرب، أنظمة ومعارضاتٍ ونخبًا، ما عدا حالاتٍ قليلة، أن يعترفوا بأنهم أصيبوا بعقدة دفينة من التونسيين، من جهة أنهم كانوا السباقين إلى افتتاح تجربة الثورة على الواقع السلطوي المريض، بعد أن وقر في النفوس العربية أنه بات قدرًا، وهو ما دفع قطاعًا واسعًا من النخب السياسية والثقافية العربية، إلى التعامل معه على أنه أمر واقع، ومن جهة أن التونسيين استطاعوا أن ينتهوا بالمسار الثوري إلى مؤسسات شرعية منتخبة، تحظى بالاعتراف الشعبي والدولي بها، بأقل عدد من القتلى والجرحى، بغض النظر عن الواقع الاقتصادي المتردي، لأسباب موضوعية معروفة.
وتجلت هذه العقدة العربية من التجربة التونسية أكثر، من خلال التعتيم الإعلامي والسياسي الذي مارسوه، هذه الأيام، على افتكاك المجتمع المدني التونسي لجائزة نوبل للسلام، تثمينًا لانحيازه إلى الوحدة عوضًا عن التفكك، والسلم عوضًا عن الحرب، والتعددية عوضًا عن العودة إلى الواحدية، وكأن الأمر يتعلق بالحصول على جائزة من مركز ثقافي في بلدية أفريقية نائية، وليس بأكبر جائزة عالمية، بغض النظر عمّا يُقال عنها، لأننا، نحن العرب، تعودنا على أن نصفها بالانحياز، حين تعطى لغيرنا، ونصف الحائزين عليها منا بالعمالة، ألم نقل هذا عن نجيب محفوظ وياسر عرفات وأحمد زويل؟
جاءت جائزة نوبل للسلام للمجتمع المدني التونسي تثمينًا لانحيازه إلى الوحدة عوضًا عن التفكك، والسلم بدلًا الحرب
لقد تزامن سفر الرباعي التونسي الراعي للحوار، إلى أوسلو لاستلام الجائزة، مع سفر طرفي الصراع الليبي إلى تونس لتسطير الأبجديات الأولى للوفاق الوطني، قبل ترسيمه يوم السادس عشر من الشهر الجاري، برعاية أممية، وسفر طرفي الصراع اليمني إلى سويسرا للغرض نفسه، وسفر فصائل من المعارضة السورية إلى الرياض، لبحث معالم الحوار مع النظام الأسدي، في ظل المتغيرات الجديدة التي فرضها التدخل الروسي، وقد كان الجميع قادرين على الوصول إلى هذا الوفاق الذي يبقى منشودًا، وليس مضمونًا، لو أنهم تأملوا التجربة التونسية، في البدايات، عوضًا عن نسيانها أو تناسيها أو التكبر عليها، وفعل رؤساؤهم ما فعل زين العابدين بن علي، إذ من التعسف في حقه، أن نهمل إيجابيات هروبه، ونحن نتحدث عن إيجابيات التجربة التونسية في المطلق.
ما ضرّنا، نحن العرب، لو كان تفكيرنا القومي إيجابيًا، ومؤسسًا على وعي عميق ومستقل، من أن نتخذ من نوبل التونسية مكسبًا قوميًا، ونتعاطى معه براغماتيًا، بتقديمه دليلًا على أننا أمة سلام ومحبة وحوار، وما داعش التي باتت تمثل صورتنا لدى الرأي العام الدولي، إلا ظل لأكذوبة خلقها وصدّقها الجميع؟
أخيرًا.. أليس رائعًا ما ورد في البيان الذي قرأه، في أوسلو، الرباعي التونسي الراعي للحوار، على مسامع العالم: نؤمن بأن الإرهاب لن ينتهي في الشرق الأوسط، ما لم تحلّ المسألة الفلسطينية حلًا عادلًا؟
اقرأ/ي أيضًا: