حين اغتال الإرهاب الأعمى شهيد الصحافة الجزائرية عمر أورتيلان عام 1995، لم يكن الرجل يطمح إلى أن يصبح رمزًا لحرية التعبير التي كان من أوائل ممارسيها والداعين إليها، ضمن نخبة من الشباب الذين تكوّنوا في صحافة الحكومة، ثم استغلوا فرصة التعددية السياسية، نهاية ثمانينيات القرن العشرين، وأطلقوا منابرَ إعلامية مستقلة، واكبت تطلعات الشارع الجزائري إلى أن يتحرر صوته، قبل أن ينتكس المسار الديمقراطي، ويعلو صوت الرصاص، على كل أصوات الحياة.
في التسعينيات، كان الاشتغال في مجال الصحافة بالجزائر، حكومية كانت أم مستقلة، طريقًا معبدًا إلى الموت
هذه الصحافة الوليدة، منها ما تم وأده، حيث تم توقيف نخبة من الجرائد، عُرفت بـ"المعلقات العشر"، ومنها ما واصل الطريق المحفوف بأشواك الرقابة وأشواك العنف المسلح في الوقت نفسه، إذ كان الاشتغال في مجال الصحافة، حكومية كانت أم مستقلة، طريقًا معبدًا إلى الموت، وبسببه فقد عمر أورتيلان حياته، وهو يردد مقولته: "أيها السلم تجلَّ".
اليوم، وبعد أن خرج الصحفي الجزائري من رهان الحفاظ على الحياة، بعد خروج البلاد من دوامة الإرهاب، إلى رهان الحفاظ على الحرية، في ظل جملة من الإكراهات والتعسفات، بات لعمر أورتيلان جائزة عالمية تحمل اسمه، بادرت بها، قبل ستة عشر عامًا، يومية "الخبر" التي أسّسها مع نخبة من الإعلاميين في عز العنف المسلح.
جائزة عمر أورتيلان التي ترأسها زوجة الفقيد زكية أورتيلان، وتضم نخبة من إعلاميي الجزائر والعالم، قرّرت هذه السنة أن تلتفت إلى الصحافة الثقافية الجزائرية، بتتويج سارة خرفي من جريدة "ليبيرتي" الناطقة بالفرنسية، وحميد عبد القادر من جريدة "الخبر" الناطقة باللغة العربية، وكلاهما، رغم تفاوت التجربة والجيل، ساهما في إضاءة ملامح المشهد الثقافي الجزائري، وقدّما وجوهه على اختلاف توجهاتها وجهاتها.
تنتمي سارة خرفي إلى جيل ما بعد الإرهاب في الصحافة الثقافية الجزائرية، وهو جيل متفتح على وسائط الاتصال الجديدة، وعلى أكثر من اهتمام ثقافي وفني، وتعدّ من الأقلام المفرنسة التي لا تملك عقدة مما يُنجز باللغة العربية، وتتميز مواضيعها بالحياد والصراحة والدفاع عن الأصوات الجديدة. أما حميد عبد القادر (1967)، فينتمي إلى جيل التسعينيات المعروف بكونه يُزاوج بين الصحافة والكتابة الأدبية. أصدر ثلاث روايات هي "الانزلاق" و"مرايا الخوف" و"توابل المدينة"، وكلها اشتغلت على هواجس الإنسان والمدينة الجزائريين اللذين تعرّضا إلى أكثر من إجهاض بعد الاستقلال الوطني، من طرف الحكومات المتعاقبة، ومن طرف الإرهاب.
في روايته الأخيرة، خاض حميد عبد القادر في موضوع جديد، هو نظرة النظام الحاكم إلى الطبقة البرجوازية، والتي تقوم على تخوينها وعدّها على الاستعمار الفرنسي، مما برّر تصفيتها ماديًا ومعنويًا، رغم أن مساهمة هذه الشريحة التي تمتد أصولها إلى الأندلس وتركيا، وبعض الأفخاذ الأمازيغية، في ثورة التحرير كانت حاسمة، وهو ما مهد، بحسب صاحب "مرايا الخوف" لترييف المدينة الجزائرية، وإفراغها من محتواها الفني والحضاري.
قرّرت عمر أورتيلان، هذه السنة، أن تلتفت إلى الصحافة الثقافية الجزائرية
هذه الهواجس التاريخية التي تشغل حميد عبد القادر، عزّزها بأكثر من إصدار في تاريخ الحركة الوطنية التي مهدت للثورة في خمسينيات القرن العشرين، وتاريخ نخبة من وجوهها ذات النزعة الحداثية، والتي تمت تصفيتها قبل وبعد الاستقلال، مثل فرحات عباس وعبان رمضان وكريم بلقاسم.
يكاد حميد عبد القادر، أن يكون الكاتب والإعلامي الجزائري الوحيد، في مجال الكتابة عن الرواية أمريكا اللاتينية، وتقديمها للقارئ الجزائري، وجوهًا وتياراتٍ ومتونًا، في مساحته الأسبوعية "مرايا"، وفي كتبه النقدية التي كان آخرَها "أسفار الزمن البهي".
تميز حفل توزيع جائزة عمر أورتيلان بتوجيه التحية إلى الصحافية المشاركة في ثورة تحرير الجزائر ميمي مازيز، وإلى روحي الصحفيين عبد الكريم الخيواني من اليمن، وسفيان الشورابي من تونس، وكلاهما تُوِّجا بجائزة عمر أورتيلان قبل اغتيالهما.
اقرأ/ي أيضًا: