أتذكر جيّدًا نحيبَ جارتنا في الضيعة؛ التي آلت الآن إلى أطلال ليس فيها سوى بضعة منازل متفرقة كذكرى، أتذكّر ذلك النحيب جيّدًا، وقد ارتعدتُ وقتها، أتذكّر الحادثة جيّدًا، كان اسمه عادل، وقد اخترقته عشرات الطلقات النارية للجندرمة على الحدود التركية، والرجال يتهامسون فيما بينهم، وكأنّه كان يمضي إلى حتفه، ثلاث مرات حاول قبلها أن يجتاز الحدود دون جدوى، وفي المرة الثالثة، لم يكترث بالكلمات التركية المعنّفة ليعدل عن رأيه، وكانت عشرات الطلقات النارية تخترق الجانبَ المغامر من جسده.
كان جسدهُ مرآةً منخورة بالرصاص للحالمين ببلاد الآخرين الدافئة، وخروجهم من الجحيم اليومي، وكانت الحدود، وكان الرصاص، والأسلاك التي تخز تلك الفقاعات الصغيرة لأحلامهم الصغيرة، ورغبة هروبهم الكبير. هذا ما أتذكّره عن الحدود، وكان من ذاكرتي عنه، الألغام، والأسلاك الشائكة. بقيت ذاكرتي عن الحدود مسيّجة بتلك الأسلاك، حتى بدأ الحراك الشعبي في سوريا برويّة، ومن ثم تحوّل إلى ثورة دكّت النظام ذي العقود الأربعين، ومن ثمّ دخل السلاح، ودخل المتصارعون على الأرض السورية، كحلبة لصراع الديكة والصيصان. ودخلت مفردة الحدود ذاكرتنا، ويومياتنا، مرة أخرى، وكان اللجوء إلى دول الجوار، والتراب الذي يحتفظ بالخطى العجولة، لم يكن ثمة ألغامٌ للاجئين، لكنّ الحياة الملغومة فيما بعد ما بين الخطى التي تمضي، والقلوب المعلّقة بأحذية العودة، حيثُ رباطات أحذيتهم مربوطة على عجل، كي يكون العود مآلًا أخيرًا.
تقولُ صديقة بعد أن استقرّ بها المطاف في الجوار/جوار الحدود: "حين خرجتُ لم أجلب ألبوم الصور معي، إلا بضع صور للذكرى، مع أنني كنتُ أستطيعُ جلبه بالكامل"، إنّه نوع من الرغبة الجامحة بالعودة. إنّ من يأخذ كلّ شيء عزيز معه أو يبيعُ ما خلفه، يؤصّلُ نوعًا من الانهزام واللاعودة، إنّ من يجلب ألبوم الصور بكامل ذكريات الضوء في حياته يعزّز في خطاه اللاعودة تلك. فلتتركوا خلفكم حقيبة صغيرة وألبوم صور في ركن ما من المنزل ليكون رهن عودتكم/تنا.
"برينو أخذ مني ألف ليرة البارحة، وقال لي ستعبرين غدًا"، كنتُ أنا وصديقتي نعبرُ الحدود أيضًا، وكنّا ننظرُ إلى المرأة تلك، وهي تقسمُ للمهرب بأنّها دفعت ألف ليرة لبرينو، وردّدت الحديث لكلّ من معنا، لم يكن إحساس عبور الحدود غريبًا جدًا سوى أنّه أثار في ذاكرتي نحيب جارتنا على أخيها عادل، ورأيت الأسلاك الشائكة التي خيّبت الخطى. في الطريق كانت الأسلاك التي اجتزناها، ملتصقة بالأرض كلبلاب، فيما الجندرمة كانوا في انتظارنا، بالعقربة تلك، التي يعرفها كلّ العابرين في قاموس عبورهم الوسيع والواخز، التي تكشف كلّ داخل وخارج إلى الحدود.
لاحقًا حين أقلّنا الجندرمة بالعقربة تلك، وشاهدت التقنيات التي يستعملونها، أدركتُ ما الذي يفعله المهربون حتى يجتازوا الحدود بالناس؛ هم يجازفون بحياتنا، ويقامرون بها أمام جندرمة، قوانين، وحدود قادرين على قتلك مرة، والعبور بك بأمان مرات قليلة.
مررنا سريعًا، وانتهينا سريعًا من الحدود، لم أحظ جيّدًا بما سيشيط بخيالي عن الألم والمعاناة التي يسردها الآخرون، بالنسبة لي مثلًا، لم أتمن أن يصيبني مكروه بالتأكيد، لكن سأوثّق الحدث من رواية الأصدقاء، وأسقطه على المشهد الذي مررت به، لجغرافيا الحدود حديث كثير، الشريط الحدودي هو لغم من الألغام القابلة للتفجير في أية لحظة، لغمٌ طويل.
في ملاجئ دول الجوار حيثُ أهلنا سيغادرون إلى بعضهم البعض في مغامرة للمرور عبر الحدود، أحاديث مرعبة حول عمليات قتل العابرين على الحدود برصاص الجندرمة، ضرب وسحل وإهانة في بعض الأحيان، النتيجة هي سياج فاصلٌ.
كانت الحدود فاصلًا في رغبتنا بالخلاص، أو زرع مناطق جديدة تستطيع النهوض بنا في نكبتنا الأبدية، وإصرارنا العنيف بأن نبلغ إلى اللامنتهى في أملنا بالغد الجميل. البعض خلع حلمه على الأسلاك الشائكة تذروها الرياح،
وتلوّح بها للعابرين، هي تلويحة لقاء كما هي وداعٍ أيضًا.
حين كنا مع المجموعة التي عبرنا الحدود من نساء وأطفال وصديقتي، كانت الجندرمة تلاعب الصغار، وتدندن معهم، وهمستُ لصديقتي "إنّهم ذاتهم من يطلقون النار على عابري الحدود في مرات أخرى، وهم من يشوّهون ويضربون بأعقاب البنادق ظهورنا المحنية جرّاء علوّ أسيجة الحدود". وتسردُ: "كنّا في دمشق أيضًا، وتركتها على مضض، وخلفي ألف حكاية منخورة هي الأخرى بالرصاص والسياط".
والرجل ذو العكّاز ينظرُ إلى التلفاز الذي يرطن بالتركية طوال الليلة الباردة في مركز الجندرمة بانتظار الغد، كان ينظر وقد فهم من الصور المتلاحقة، القادمة من اسطنبول أنّه ثمة عاصفة هناك، وضحكنا: "يا لحظي، حتى إسطنبول ستتهدّم، وتؤول إلى خراب بعد أن قررتُ أن أذهب إليها" في مزاحٍ مرّ.
أخرى كانت إلى جواري تحملُ سلة لطفلٍ لا يزال في أحشائها "لا أريده أن يلد في هذه الأرض، أريده أن يفتح عينيه هناك، وتشير بيده إلى اتجاه ما"، وتدخّن بنفس طويل. حكايا كثيرة تشبه التأفف في فم المنتظرين، لكنني لم أعرف بالضبط إحساسهم باللاعودة، ذلك الإحساس المتخاذل مع المكان، المهادن للغربة، لأنني عائدٌ.
هل سأحتاجُ أن أنقل ما بخاطرهم! إذن عليّ أن أزرع في خطاي اللاعودة تلك، بعد أن آخذ كلّ الصور، وأبيع كلّ غالٍ. ليس كلّ من يعبرُ الحدود ذاهبًا إلى سدرة لامنتهاه، لكنّه الحدود الذي لا يحتفظ بالخطى لكثرة من يعبرون.
اقرأ/ي أيضًا: