ما الذي أخرج المصريين يوم الجمعة الماضي؟ ما الذي حملهم على تحدي دولة البطش؟ ولماذا فاجأنا النظام العسكري الصارم المتجهم بهذه السلاسة في التعامل مع المتظاهرين؟ من يدير المشهد الخلفي في الصورة الكبيرة؟ هل يوجد من يتحكم في أمزجة المصريين؟ هل يوجد من يتحكم في المزاج العسكري على الجانب الآخر؟ هل هناك من يلعب على الوترين؟
من يدير المشهد الخلفي في الصورة الكبيرة؟ هل يوجد من يتحكم في أمزجة المصريين؟
ليلة الجمعة الماضية، كنت كالممسوسين أجوب كل ركن في بيتي، مصابة بشلل تام في التفكير، وأحاول أن أرهق نفسي بالحركة علَّني أنام، لا شيء يخدر أعصابي. كل أصدقائي سيخرجون، أعد أصابعي كالأطفال، منهم من استلم بالفعل من النيابة العامة تهمًا تقوده إلى حبل المشنقة بالفعل، أو إلى غياب في السجن حد التعفن. ممنوعة من التدخين بأمر طبي صارم، قالها طبيبي واضحة "سيجارة أخرى وتموتين خلال يوم واحد". قبلها كانت السلطات اعتقلت بالفعل مجموعة صغيرة من الشباب، قوامها أحد عشر خرجوا جميعًا "إخلاء سبيل" هكذا بمنتهى الكرم الأبوي العسكري!
اقرأ/ي أيضًا: متى ننتقل إلى لعب التانجو؟
يسألني صديق: سيقتلوننا بدم بارد؟ جعلت أحصي له إشارات الفترة الماضية منها الشباب المفرج عنهم، منها امتعاض واضح حد الغضب المعلن من مؤيدي الجنرال دون مجاذيبه. امتعاض من الإعلاميين لا يصدقه أحد ممن باتوا يعرفون كيف تدار اللعبة الإعلامية في مصر.
يوم الجمعة أتى ثقيلًا باردًا في بدايته، في الفجر وجد الناس في أحد شوارع "وسط البلد" ماسورة مياه مكسورة بفعل فاعل، وقد أغرقت الشارع والشوارع المحيطة تحتها. تعليق من شاب على فيسبوك يقول: "بدأنا". زميل أصيب بهستيريا غضب جعلته يضع رقم هاتفه في رسالة علنية على الإنترنت، ويلعن نزوله بلا أي رادع، واحدًا تلو الآخر بدأوا في تلاوة صلواتهم الأخيرة، كثيرون سيخرجون ويعلنون خوفهم، لكنهم لا يرون بديلًا عن الخروج.
لا أعرف متى وأين بدأت المسيرات، تتوالى الصور بعد صلاة الجمعة، مسيرات من شارع مصطفى محمود "شارع كرنفالات مؤيدي الرئيس سابقًا"،الصور تتوالى من الجيزة، ومن وسط البلد، كإجراء احترازي قديم ومستهلك حد استفزاز النكات والسخرية عند المصريين، أغلقت محطة مترو السادات، محطة ميدان التحرير.
العساكر لم يطلقوا رصاصة واحدة، واضح أن الأوامر لم تأتِ بالقتل بعد
المكان الحقيقي الأكثر اشتعالًا كان نقابة الصحافيين، الأعداد كبيرة رغم قسوة نيسان/أبريل في نهاره، الجو مشحون والشباب متحمس والمعنويات عالية، وجل ما فعله العسكر هو الغاز المسيل لتفريق الناس. هتافات الشباب البذئية المحببة إلى النفس، لافتاتهم الساخرة روح تعود كانت قد غابت، لكن "الحنين موجود" كما تقول أم كلثوم في إحدى أغانيها.
اقرأ/ي أيضًا: جوليو ريجيني.. المجتمع المناهض لهدر الإنسان
العساكر لم يطلقوا رصاصة واحدة، واضح أن الأوامر لم تأتِ بالقتل بعد، أحمد الله وأتمنى أن ينتهي اليوم بسرعة. قبلها أعلن فصيل، قيل أنه منشق عن جماعة الإخوان المسلمين، انضمامه إلى يوم "جمعة الأرض". استاء كثيرون لأن الهدف كان طي الإيديولوجيات والالتفاف حول المطلب الواحد الكبير وهو استعادة الأرض. كنت واحدة ممن لم يروا في الأمر حكمة، دون أن أعترض على نزولهم كمصريين لهم كامل الحق والثأر مثلنا ضد النظام.
رُفعت أعلام مصر فقط، وأعلام تحمل صور الشهداء، منها مرسوم على جدران نقابة الصحفيين كصورة الشهيدة المصورة ميادة على اليمين، وصور آخرين لا أعرفهم على اليسار.
لماذا لم يطلقوا النار؟ على الجانب الآخر من النهر، يجتمع الرئيس مع شباب البلد على ضفاف البحر، يجلس على كرسي جلدي له ظهر واسع وأمامه ورد بلاستيكي وفي الشارع "عيش حرية .. الجزر مصرية". لا شيء يتحكم في أمزجة المصريين سوى خيبة الأمل، المصريون الذين انبرى بالهم للتدقيق في الخرائط ليعرفوا ما إذا كانت تيران وصنافير مصريتين أم لا، يعرفون في قرارة أنفسهم أنهما مصريتان، أحدهم أرخ مصريتهما بقوله أنهما مصريتان قبل ظهور الدولة السعودية نفسها، وأن هناك أشياء في مصر مصرية قبل دولة آل سعود، منها مقهى الفيشاوي المعروف الذي يرتاده المصريون منذ بدايات القرن الماضي!
انفض المصريون ليتفقوا على العودة في عيد تحرير سيناء، وجوه ضاحكة مستبشرة، تم تنفيث الغضب، دون مبالغة في التفاؤل هل سيُتركون للعودة مرة أخرى؟ ورد أن خمسة وعشرين شابًا، كانوا محتجزين في قسم عابدين، تم رفض تنفيذ قرار اتخذته النيابة العامة بالإفراج عنهم، نعم هكذا تدار الأمور في مصر..! إنّ غدًا لناظره قريب.
اقرأ/ي أيضًا: