البؤس هو أن ترى الفئات الثورية أن الفقراء المؤيدين للنظام مرتزقة فقط، وألا ترى فيهم فقراء يتم استغلال فقرهم لصالح الدعاية الإعلامية لما يسمى بعيد تحرير سيناء. صور الفيديو التي تم تداولها على صفحات التواصل الاجتماعي للعصائر والمياه الغازية، والتعليق عليها بأنهم مرتزقة قبضوا ثمن وقفاتهم وهتافهم معقولة وقريبة من الحقيقة، لكن المشكلة تكمن في انفصال هذا الوصف عن حقيقة ما يريده الشارع الشعبي، وما يقوله المتصدرون للحراك.
الأفكار التي تنهض عليها الآلة الإعلامية للترويج لما يفعله السيسي، استخدمت مداخل الاستقرار و"أكل العيش" و"حب الشعب"
الفقر في مصر متوحش ومرعب، هناك من يبيتون حرفيًا دون وجباتهم الأساسية. توحش الأسعار وغلاء الإيجارات، لا بدائل للفقراء سوى بيع أنفسهم ودينهم، وحتى لا تنفصل الثورة عن الواقع، خصوصًا وهي تنمو وتكبر في بيئة خصبة، علينا ألا ننظر إلى هؤلاء طوال الوقت فقط على أنهم مستغلون.
اقرأ/ي أيضًا: في مصر.. حتى الستر في خطر!
كنت عائدة ليل الأربعاء من بيت إحدى الصديقات مع ابنتي، ركبت مع سائق أجرة وسيدة أخرى كانت معه بالقرب من منطقة عبده باشا الشعبية ليلًا، تحدثا عن دعوات التظاهر يوم عيد تحرير سيناء، وصبا جام غضبهما عليها، واعتقدا أنها "وقف حال" ورغم النظرة الأحادية التي بات كل منهما يرى بها أي عمل ثوري في الشارع، ورغم تراجعها إلى حد كبير في الأيام الماضية على خلفية تدهور الأحوال الاقتصادية في مصر، لكن صوت هؤلاء يبقى عاليًا ومسموعًا.
الأفكار التي تنهض عليها الآلة الإعلامية للترويج لما يفعله السيسي، استخدمت مداخل الاستقرار و"أكل العيش" و"حب الشعب"، وهي مداخل لا تزال تحظى بشعبية كبيرة بين أوساط المجتمع المصري. الشعب الذي يرى بعضه أنه لا مشكلة من بيع أو حتى تأجير جزيرتين لم يكن يعرف اسمهما من قبل، ويرى أن صفقة الأسلحة ليست بالأمر السيئ، طالما توفر سلاحًا للجيش لزوم القوة، وترى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. لست مع طريقة التفكير الساذجة الضحلة تلك، لكن نبرة التعالي الثورية التي يتنباها البعض أورثت انفصامًا بين الشارع والشعب من ناحية، والوعي بالحقوق والتساهل فيها من ناحية أخرى.
ليس المطلوب على كل حال التحام كامل بين "الكتلة الحرجة" الفقيرة والقوى الثورية، تاريخيًا لم يحدث هذا بشكل كامل إلا في فرنسا في الستينيات إبان ثورة الطلبة، والتضامن الذي حظي به الطلاب من قبل عمال المصانع الذين تضامنوا مع الطلبة بإضراب 1500 عامل مصنع في ذلك الوقت.
الخطاب الثوري هو أحد مفاتيح منح الثورات قبلة الحياة، وهو ضمان استمرار بقائها ومقاومتها للسلطة
المطلوب هو تغيير في قوام الخطاب الثوري الموجه إلى الشارع الذي أرى أن وقته الذهبي السانح الآن. وذلك نظرًا لأن النظام أصبح هو نفسه يمارس هذا الاستعلاء من خلال أجهزته التنفيذية في الشارع جيشًا وشرطة، فمن إذلال الكمائن على الطريق، إلى تعمد عدم محاسبة أفراد الشرطة حال ارتكابه جريمة ضحيتها مواطن عادي، إلى الإذلال في أقسام البوليس وأماكن التحقيقات.
اقرأ/ي أيضًا: من مهرج السلطان إلى السلطان المهرج
الخطاب الثوري هو أحد مفاتيح منح الثورات قبلة الحياة من وجهة نظري، وهو ضمان استمرار بقائها ومقاومتها للسلطة وأجهزتها الإعلامية، تعيش الثورات حين تبدأ من القاع، ثم تتصاعد إلى الأعلى لتتكثف قيمها في النهاية، وتنتشر أفكارها بين كل الطبقات.
في ثورة يناير، يوم الخامس والعشرين تحديدًا، كنت عائدة من منطقة عملي في السادس من أكتوبر، فركبت أتوبيسًا صغيرًا متجها إلى وسط المدينة. عامل بسيط كان بين الركاب يحمل في يده أدوات عمله، وهو مشهد معتاد في تلك المنطقة حيث تنشط أعمال البناء لكونها منطقة حديثة، كان الرجل شاحبًا كئيبًا نحيلًا، كأنه جائع منذ ولد، كان صامتًا طوال الوقت والركاب من حولي يتحدثون عن الاستقرار الذي يتهدد البلد بسبب هذا "الهياج" الذي يفعله مجموعة من الشباب "المغيب"، سمع الرجل أحاديث الركاب جميعهم ثم رد قائلًا: لقد عشنا عمرنا في الذل نتنفسه ونأكله مع اللقمة التي نبلعها، فماذا سيُفعل بنا أسوأ من الذل؟ فلنعش كرامًا يومًا واحدًا. أدهشني رد الرجل البسيط وبقيت أتطلع إلى هيئته الرثة طوال الطريق وأنا أقول: أين علية القوم ليسمعوا كلامك أنت؟
اقرأ/ي أيضًا: