لا يفهم المؤلف الموسيقي الجزائري سليم دادة، ما ينجزه من موسيقى خارج مهمته كطبيب، غير أن الموسيقى تتفوق على الطب في أنها ترمّم جسد العلاقات الإنسانية أيضًا، حيث يبلع البشر الجرعة التي تقدمها لهم، من غير أن يحتكموا إلى وصفة الجنسية.
لفت الموسيقي الجزائري سليم دادة المشهد الغربي إلى أن النشاز هو صوت السلاح
هذا ما يقوله سليم دادة إنه جرّبه في المحافل الموسيقية العالمية التي قادها أو شارك فيها، وتجسدت أكثر في الألعاب الأولمبية التي احتضنتها لندن عام 2012، حيث تعددت الجنسيات، وتوحدت ردة الفعل بخصوص ما قدمه من موسيقى جزائرية. أدرك صاحب سيمفونية "أشواق"، وهو هاو بداية تسعينيات القرن العشرين، أنه لا بد أن ينخرط في الاحتراف، فأوغل في دراسة الكتابة الموسيقية، مع المؤلف الموسيقي جون لوك كوتشينسكي في المدرسة الفرنسية للكتابة والتأليف الموسيقي، وكذا بالمعهد الوطني العالي للموسيقى بالجزائر، مع الأكاديمية غولنارة دجير مالييفا بويعقوب، وهي الفترة التي ألف فيها أعمالًا على الغيتار والكمان والعود.
أهّلته هذه الأعمال للحصول على منحة الحكومة الإيطالية، حيث قاد سليم دادة الأوركسترا مع المايسترو غويدو ماريا غويدا بكونسرفتوار الدولة لمدينة تورينو، بالموازاة مع إعداده شهادة دوكتوراه عن الأبعاد الجمالية في الأذان، في جامعة السوربون التي ينتمي إلى معهدها المتخصص في البحوث الموسيقية، بعد أن قدم بحوثًا عن التقاليد الموسيقية في أذربيجان، وتعدد الأصوات في الأوركسترا، وتطوير الموسيقى الشرقية، وحالة المقامات السيمفونية عند الموسيقار الأذري فكرت آميروف.
قاده إحساسه بإنسانية الفعل الموسيقي، على ضوء مداركه المعرفية، إلى بلورة مشروع فني، يمتح من الموروث الموسيقي العربي، بالتركيز على نقاط قابليته للحوار مع التراث الموسيقي الغربي، قصد وضع الأذن الغربية في مواجهة المشتركات الفنية والإنسانية، ولفت المشهد الغربي إلى أن النشاز هو صوت السلاح.
تقول زهية زيواني، قائدة الأوركسترا السيمفونية ديفرتيمنتو بفرنسا، إن أعمال سليم دادة تأتي إجابة ذاتية وفريدة من نوعها عن العديد من أسئلة الهوية، الثقافة، الحدود والتراث. "إنها عناق ناجح بين الموسيقى العلمية والموسيقى التقليدية، وبين الشفوية والكتابة، وبين الفن الشعبي والتطلعات الفنية المعاصرة".
يبرر لنا سليم دادة الذي خاض جولة أوروبية مشيًا على الأقدام، كنوع من الدعوة إلى المحبة والسلام، توجهه هذا بكون الفن ثمرة للشغف، وهو لا يتأتى من داخل التشابه، بل من جوانية الاختلاف. يذكر مثالًا على ذلك كونه أحسّ، وهو يقود حفلاتٍ مع أوركسترا الشباب الفلسطيني، بأن العرب لم يقدموا حق فلسطين في الانعتاق من الاحتلال، من الزاوية الإنسانية، مثلما فعلت تلك الموسيقى، بل من الزاوية القومية فقط، وهو ما أسس لانحياز الضمائر إلى العرق لا إلى الواجب الإنساني.
يرى سليم دادة في المرحلة الأندلسية، بعيدًا عن الحنين خارج منطق التاريخ، تجربة عربية قامت على الإبداع لا الصراع، فقدمت إنجازاتٍ فنية نادرة في العمارة والموسيقى، لم تتعرّض للاستئصال من طرف الأوروبيين، لأنها استقطبتهم من الزاوية الإنسانية، وإن العودة إلى تراث تلك المرحلة بحسبه، ستشكّل عاملًا مساعدًا على أنسنة الخطاب لدى الطرفين.
هذه القناعة قادت المؤلف الموسيقي الجزائري لدى الأوركسترا السيمفونية ديفرتيمنتو في ضاحية باريس، إلى تأليف سيمفونية على أسلوب النوبة الأندلسية أسماها "دزاير"، الاسم الشعبي للجزائر، كاسرًا بذلك قداسة الحكم الفني المتوارث، من أن النوبة فعل مكتمل، ولا يجوز التجديد فيه أو الإضافة إليه.
ولم تخل أعمال سليم دادة التي عرضت في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا والصين وأمريكا وقطر من مسحة صوفية، ورثها عن مدينته "الأغواط" عند مدخل الصحراء الجزائرية، أين المقر العالمي لمشيخة الطريقة التيجانية التي أسسها أحمد التيجاني (1737 ـ 1815)، حيث السماع الموسيقي، من طقوس النشوة والارتقاء بالروح والحواس.