من بريجيت بوردو إلى جين بيركين ونهاية بـ"بامبو"، مرت الجميلات في حياة المؤلف والملحن والمغني الفرنسي سيرج غانسبورغ تمامًا كزياد الرحباني في عالمنا العربي. سيرج كزياد وزياد كسيرج، تصل الموهبة الموسيقية لديهما إلى درجة العبقرية. عبقرية في التأليف والتوزيع والتلحين وساعات العمل المجنونة والمخلوطة بالشرب والتدخين والإعجاب بالنساء إلى حين أن ينجز اختراع نوع موسيقى خاص، وخارج عن أي مدرسة، أو أي حدود موسيقية اعتدنا عليها أو سمعناها.
سيرج غانسبورغ وزياد الرحباني مستفزان، ورغم استفزازهما يحتلان مكانة عالية في قلوب المعجبين
لا يتشابه الاثنان فقط في الإبداع الذاتي الخاص بهما في عالم الموسيقى، بل أيضًا في فن الجدل والتحريض والاستفزاز. زياد كسيرج وسيرج كزياد، لا يأبهان لملاحقة الفضائح لهما ولأفراد عائلاتهما أو أحبائهما.
زياد كسيرج لا يمتلكان من الجمال ما يمتلكه غيرهما في الوسط الفني والموسيقى، بل على العكس لديهما من "البشاعة النسبية" ما يكفي ليتخذا من الموهبة الموسيقية والـ"عكرتة" والـ"زعرنة" نهجا و"ثيرابي نفسيا" لجذب الفراشات الجميلات. جمل ساخرة مكونة من كلمات فيها من الذكاء والخفة المتطلبة لجذب كل من هو ناقم على ما حوله في مجتمعات، لن تستوعب تقدم المغنيان بالرؤيا عن مجتمعهما المحيط. هي طريقة خاصة بهما في التعبير عن الفكر عن طريق اختيار الكلمات اللاذعة والساخرة. يشكل زياد وسيرج فنًا جديدًا وهو فن التلاعب في الكلمات، كالمغني الفرنسي جورج براسانس الذي يعتمد على أن تفهم الجملة من منطلقين، منطلق مباشر وآخر باطن يكون غالبًا محرضًا ومستفزًا.
سيرج غانسبورغ ولد باسم لوسيان غانسبورغ، لأب وأم روسيين. وزياد هو ابن فيروز وإن كان لم يولد روسيًا كسيرج فإنه ينتمي إليها قلبًا وقالبًا. هما مستفزان ورغم استفزازهما، رضينا أم لم لا، فإنهما يحتلان مكانة عالية في قلوب المعجبين. لديهما قابلية وليونة عبقرية في التطوير من الموسيقى من دون التقيد بسنة أو بنمط معين، فنراهما يدمجانها ويعيدان تشكيلها لتحتوي على خليط من الكلاسيكية، الجاز ومن الريجي، ليخلقا بذلك نوع موسيقي خاص بهما.
زياد وسيرج لديهما هذا الحس الذي يتعدى حدود الموسيقى، ولا يترددان أبدًا في استخدام صوت المرأة العذب ولكنتها "الدلوعة" في أغانيهما، وليس شرطًا في أن تكون المرأة بجدية ووقار فيروز. ولن يتوقف الاثنان أمام تاريخ المرأة الفني أو دراساتها الموسيقية العالية، فكما غنت بوردو وبيركين مع سيرج، تحدث زياد عن عمل مشترك يجمعه بمايا دياب.
يسبق سيرج زياد في جرأته فيستفز عالم الموسيقى في كلمات إباحية لأغنية "جوتيم موا نون بلو" أو "أحبك.. وأنا أيضا لا أحبك". نعشق زياد كما نعشق سيرج ليس لكونهما الأكثر جمالًا كما ذكرت، بل الأكثر حنكة والأكثر ذكاء ودهاء في التعامل مع المرأة والمجتمع المنافق وانتقاده من دون عناء أو خوف من الفضيحة. السر يكمن لديهما في السخرية اللاذعة باستخدام الحس المرهف والقلم الساخر الذي يكتب مثلا كلمات إباحية، يغنيها صوت عذب.
غنى غانسبورغ النشيد الوطني الفرنسي على ألحان "الريجي"، ونال هجومًا لاذعًا إزاء تحريضه الصادم
يتابع غانسبورغ تحريضه واختلاقه لقصص أغانيه كقصة ميلودي نيلسون، الفتاة ذات الشعر الأحمر "ميلودي"، "لوليتا"، صغيرة تبلغ من العمر 15 عامًا تربطها بالمغني القبيح، الذي يكبرها بأعوام، علاقة غرامية. تتعدد مواهبهما لتكون رسومًا متخصصة في رسم الانحناءات لجسد المرأة لدى غانسبورغ ومسرحيات لدى زياد.
لعبة الاستفزاز وانهيار الأسطورة
لم تقف الرقابة، أم الخوف، في وجه غانسبورغ أو في أن تمنعه من متابعة الاستفزاز والتحريض، فحين واجهته فترة من الركود، رحل إلى حيث موسيقى الريجي، وغنى النشيد الوطني الفرنسي على ألحان "الريجي" ولاقى هجومًا لاذعًا إزاء تحريضه الصادم هذا.
غانسبورغ لم يتوقف عند هذا، بل استفز المشاهدين الفرنسيين والنقاد من جديد وذلك خلال لقاء معه على محطة فرنسية، حيث قام بحرق "ورقة مالية" بقيمة 500 فرانك، في تلك الفترة، ليجيب عن معنى الاشتراكية. سحب سيرج ورقة الـ500 فرانك، وقال موضحًا: "أنا أدفع 74٪ من الضرائب، أليس كذلك؟"، وتابع: "أعرف بأن ما أقوم به غير قانوني، وليعتقلوني إن شاؤوا، و"سوف أتوقف عن حرقها حين تصل إلى 74٪"، ومن ثم أطفئها بأصابعه وقال: "هذا ما تبقى لي" بعد دفع الضرائب، وأضاف: "يجب التوقف عن ترديد الحماقات، هذه النسبة لا تذهب إلى الفقراء، بل إلى البرامج النووية". وتابع قائلًا: "أودّ ان يمتلك كلّ الفقراء ساعة رولز رويس، أما أنا، فقد بعتُ تلك التي كنت أملكها. هذا هو العمل الاشتراكي".
غانسبورغ ودعمه لإسرائيل، زياد ودعمه للأسد
حينما نرى الانحدار الأخلاقي الذي يتعدى مجرد وجهة نظر ليكون موقفًا سياسيًا يتخذ من عباقرة كزياد وسيرج فإن إعجابنا يصبح خذلانًا، وتتلاشى الكلمات في الهواء. إننا حين نستمع لتصريحات وحقائق لا أخلاقية وغير إنسانية تؤيد الدكتاتور وتدافع عنه بدلًا من الدفاع عن ثورات الشعوب والمدنيين، فإن صورة الإسطورة تمحى وتحل بدل منها الخيبة والاشمئزاز. فزياد بدعمه للأسد فقد الأغلبية من محبيه ولاقى الانتقادات الواسعة وخيب ظن الكثيرين فيه، وسواء اكترث أم لم يكترث لـ"حكي الناس" ومحبتهم أو عدمهما، فنحن هنا أمام موقف سياسي أخلاقي، ولا نقبل بأن يكون القتل والدمار والموت مجرد وجهة نظر، تشوه الصورة والعبقرية الموسيقية التي شكلها الفنان لنفسه.
غانسبورغ، فيما يتعلق بنا كمعجبين من العرب، حطّم هو أيضًا إسطورته وعبقريته وزعرنته، فصرنا نستهجن موقفه السياسي واللا أخلاقي لكونه "يعشق أرض إسرائيل"، ومستعد للـ"موت في سبيل الدفاع عنها".وما علينا سوى سماع أغنيته التي ألفها للتضامن مع الجنود الإسرائيليين "الجندي والرمل"، والتي طلبها منه آنذاك الملحق الثقافي للسفارة الإسرائيلية في باريس، وذلك لدعم الجيش الإسرائيلي خلال حربه ضدنا في "نكسة حزيران"، أو حرب الأيام الستة.
أحب غانسبورغ إسرائيل وكان متعلقًا بها وبحلمها كدولة لليهود، ولم يخجل أبدا من موقفه ولم يخفيه
أجل هي قشعريرة تمر بالجسد وتبرد من حرارته عندما وتجعلنا نلقي بكل "أقراص الفينيل الموسيقية" خاصته من النافذة. وبخاصة حين نستمع، كعرب وكفلسطينين ومتضامنين معها، إلى كلمات الأغنية اللاذعة، والتي ستمحو إسطورة الـ"عبقري" غانسبورغ.
هي كلمات سامة رددها الجنود الإسرائيليون خلال مشيتهم العسكرية المنجسة لأراضينا:
"نعم، سأحمي رمل إسرائيل، أرض إسرائيل وأطفال إسرائيل.
نعم سأموت في سبيل رمل إسرائيل.
أرض إسرائيل وأطفال إسرائيل.
سأدافع ضد الأعداء عن الرمل والأرض التي وُعدتُ بها.
سأدافع عن رمل إسرائيل
مدن إسرائيل، بلاد إسرائيل
نعم سأموت في سبيل رمل إسرائيل، مدن إسرائيل وبلاد إسرائيل.
جميع الـ"جليات" الذين أتوا من الأهرامات
سيتراجعون أمام نجمة داوود.
سأدافع عن رمل إسرائيل
أرض إسرائيل، وأطفال إسرائيل
سأموت في سبيل رمل إسرائيل
أرض إسرائيل وأطفال إسرائيل".
كانت هذه طعنة غانسبورغ، لنا نحن معجبيه من العرب، وكانت هذه هي الهدية السرية التي أرسلها إلى إسرائيل وقام بتسجيلها في ليلة "السادس والسابع من يونيو/حزيران" من عام 1967. كتبت الأغنية بالفرنسية وترجمت إلى العبرية. أرسلت بطائرة مباشرة إلى تل أبيب، وظل محتفظًا بها، وخلال خمسة وثلاثين عامًا في أرشيف راديو "كل إسرائيل"، إلى أن جاء جان غابريل نوفيل، الذي كان يعلم بوجودها وبعد البحث المطول عن موقعها الجغرافي ووجدها هناك، في أرشيف الراديو.
لقد أحب غانسبورغ إسرائيل وكان متعلقًا بها وبحلمها كدولة لليهود، ولم يخجل أبدًا من موقفه ولم يخفيه. غانسبورج اليهودي الصغير الذي لم تطأ قدمه أرض إسرائيل طوال حياته كلها، كان يتحدث عن طفولته كونه روسيًا وليس يهوديًا، ويسخر من يهوديته قائلا لقد ولدت محظوظًا في ظل "نجمة صفراء". ترك وراءه زوجته الإنجليزية السابقة جين بيركين التي تزور إسرائيل باستمرار وتحلم بأن يعترف الفلسطينيين بإسرائيل وبأن تعترف إسرائيل بالفلسطينيين.
وترك ابنته الممثلة والمغنية شارلوت أيضًا، المتزوجة من اليهودي إيفان أتال الذي يسعى حاليًا إلى تصوير فيلمه الكوميدي القادم "اليهود"، كعنوان مؤقت، الذي يتحدث من خلاله عن ازدياد "معاداة السامية" في المجتمع الفرنسي. وسواء في حياته أم بعد مماته، لا تزال المنظمات والمؤسسات الصهيونية الداعمة لإسرائيل تتحدث عن سيرج غانسبورغ كـ"ابن لإسرائيل" الذي اتخذ موقفًا جريئًا في دفاعه عنها!
ولحين أن يفيق العديد من المعجبين بسيرج غانسبورغ من صدمتهم وإدراكهم لحقيقة فصل أو دمج العبقرية الموسيقية عن الموقف السياسي والأخلاقي، سأظل أتساءل عن الموعد المترقب لأغنية يؤلفها ويوزعها ويشهر بها زياد الرحباني دفاعًا عن الأسد. أغنية أتمنى أن تكون بصوت البراميل الملقاة على أجساد الأبرياء من الشعب السوري، وأتمنى أن يكون ملمس الـ"سي دي" المسجل بارد هذه المرة، تماما كبرودة أجساد الأطفال السوريين الذين قتلوا تجمدًا من البرد في خيمهم في معسكرات اللاجئين خلال فصل الشتاء.